غزّة تبدع مصير أمة
فجر الأمة يطلع من فلسطين، وتحديداً من قطاع غزة، مبشراً بتغيير جذري يطهر بلاد العرب من كل الاحتلالات. فيا مرحباً به مهما كانت تكلفته باهظة، فكل شهيد غال وعزيز، وهل تتحرر الأوطان بغير التضحيات؟!
رشاد أبو شاور
نعم، نحن لا نتفرج على مباراة كرة قدم ممتعة ومسلية، فما يحدث في قطاع غزّة، وعلى أرض فلسطين في الضفة والقطاع والـ 48 هو حدث تاريخي تحوّلي مصيري يقرر حاضر ومستقبل الوطن العربي الكبير، والأمة العربيّة المستباحة، والممزقة، والمحتلة أرضها بالقواعد الأميركية، تحديداً: السعودية، قطر، البحرين، الإمارات، المغرب، الكويت، عُمان، الأردن…
“طوفان الأقصى” ضرب الوطن العربي الراكد وهزّه، وصعق عدونا المحتل لفلسطين بكاملها، والذي يُجري يومياً “بروفات” استعراضية وقحة لاحتلال الأقصى، بينما تبارك أميركا ما يفعل، و”تتصالح” معه نظم حكم عربية، تطبّع، وتنسق، وتخطط لعلاقات اقتصادية، وتمضي بعيداً في تصالحها من دون أن تأبه باحتلاله لفلسطين، وعبثه في المقدسات التي تهفو لها قلوب ملياري مسلم في العالم.
الدويلات “اللقيطة” فجرت تماماً، وما عاد يؤثر فيها اللوم والعتب والشكوى من سلوكها الخارج عن كل القيم، فتمعن في إدارة الظهر لكل المحرمات التي تمنعها من المروق على أقدس قضية توحد الأمة وتضعها وجهاً لوجه مع العدو الذي يستبيح قدسية فلسطين، والتسامح بموقعها الذي خاضت الأمة حروباً على امتداد قرابة المئتي عام، هي عمر الحروب الصليبية، حتى ثبتت تحريرها واقتلاع الغزاة الصليبيين ومعهم التتار.
هي أنظمة حكم خارجة عن التاريخ والجغرافيا العربيّة، لا يرى حُكامها إلاّ مصالحهم.
من ينتظر أن تطرد دول التطبيع سفراء الكيان الصهيوني، وتسحب سفراءها وتنهي حقبة التطبيع فهو واهم، رغم أنها ترى كيف هز “طوفان الأقصى” العالم النائم الضمير إزاء ما يحدث في فلسطين من عدوانية الاحتلال الصهيوني، واقتحامات مستوطنيه للمسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال وجنوده، واعتداءاته اليوميّة على المواطنين الفلسطينيين عند كل حاجز، وامتهان كرامة الفلسطينيين وحريتهم وحياتهم، وتمزيق التواصل بين المدن والقرى والبلدات الفلسطينيّة، وحملات الاعتقالات التي تطال الكبار والصغار، النساء والرجال، ومداهمات البيوت…
وكل هذا بهدف تيئيس الفلسطينيين، وتنكيد عيشهم، وإحباطهم، ودفعهم إلى الهجرة من وطنهم لضيق العيش في رحابه التي خنقت أنفاسه وتفاقمت منذ “أوسلو” قبل ثلاثة عقود، وتكشّف الوعود عن أكاذيب وتحايل وجرجرة لسلطة لا سيادة لها، بل هي شاهدة زور تعيش في الوهم، وتراهن على ما لا يأتي، ويتسابق رموزها على الوراثة والامتيازات، وأثناء ذلك تُقيّد السلطة الضعيفة شعبنا في الضفة، وتقمع كل من يقاوم، كأنما لا يكفي شعبنا قمع سلطات الاحتلال ومستوطنيه وقهرهما!
أنظمة التطبيع “متفائلة” بقصر نظر، أن تنتهي عملية “طوفان الأقصى”، وتنتهي حماس وكتائب القسّام، ومعهما الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، وكل من يقاوم، ليتم التخلّص من كل القوى المقاومة، لكن المعركة امتدت وطاولت المطبّعين وأسيادهم.
خاب رهان المطبّعين على “سندهم” المُرتجى الكيان الصهيوني، المأمول منه حمايتهم، ومدهم بالقوة التي تحفظ “دولهم” الثريّة والمتحاسدة فيما بينها، فهي لا تؤمن بعروبة تجمعها وتحميها، فلو كان الأمر كذلك لما التفت على الشعب العربي الفلسطيني، وعبرت من فوق تاريخه وجغرافيته وقدسه وموقعه الجامع للأمة العربيّة، والمحتل بعدو صهيوني يُمزّق وحدة الأمة العربيّة، ويشكّل القاعدة الأكبر التي تضمن للغرب الاستعماري مصالحه في بلاد العرب، وهيمنة “الإمبراطورية الأميركية”، أكبر لص في تاريخ البشريّة.
معركة “طوفان الأقصى” تضع جماهير الأمة في الوطن العربي في مواجهة حُكّام التبعية المستبدين المعزولين عن جماهير يحكمونها ويتحكمون بحياتها، وهذه الجماهير تتدفق إلى الشوارع التي تزدحم بها حضوراً وهتافات ترفض التطبيع، وتطالب بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وبالعداء لأميركا. وهذه الجماهير تعرف أن الحكّام لن يستجيبوا لمطالبها، وهؤلاء الحكام لن يتوبوا ويتراجعوا عن سياسات اتبعوها تعود عليهم بالحماية والرعاية الأميركية والصهيونية كونهم لا يحظون بأدنى شعبية لدى الجماهير، ويخشونها ويتحسبون لغضبها وانفجارها واقتلاعها لهم ومحاسبتها لهم على إفقارها واستباحة خيرات بلادها وتمكين الأعداء من التمتع بكل خيراتها، ومصادرة مستقبلها ومستقبل الأمة التي تنتسب إليها.
جماهير الأمة في طريق، وحكّام التطبيع في طريق مناقض مُعاد. خيار جماهير الأمة يتجلّى في المقاومة، تحرير فلسطين، طرد الأميركيين من بلاد العرب، استقلال أمة العرب وسيادتها. وحكّام التطبيع مع مصالحهم، ومصالحهم مع أميركا والكيان الصهيوني، ولذا هم يرتجفون من هول ما يرون، فالمعركة كبرى وتاريخية وشاملة، وتنفتح على صراع شامل لن يرحمهم، ومن ارتجوا الحماية منه يترنح أمام بصرهم، فالكيان الصهيوني بـ”جيشه” وأجهزة أمنه وتقنيات تجسسه التي بيعت لهم لتحميهم في قصورهم ثبت أنها أوهن من بيت العنكبوت إذا ما انتفضت جماهير الأمة، وبداية من فلسطين أرض النزال منذ الحروب الصليبيّة وحتى يومنا هذا..وها هي تفعل.
معبر رفح مغلق، والجرحى الفلسطينيّون يموتون نزفاً بلا دواء، والشهداء صغاراً وكباراً يدفنون في مقابر جماعية، وأسماؤهم على أيديهم، و”المتبرعون” المطبّعون يرسلون إلى الفلسطينيين أكفاناً! يا لعار الخونة، فيما عرب فلسطينيون بدمهم وعظمة ما ينجزون يقدمون للأمة فرصة تاريخية نادرة كي تخرج من زمن الانحطاط والتبعية والتطبيع والهوان.
تتواصل المعركة وتحتدم وتنفتح على فجر للشرق كله، فثمة أمة بدأ نهوضها مع فجر السابع من أكتوبر، بالضبط من على رمال غزّة. طوفان غزة يكتسح كل ما يعترضه، ويمضي إلى العالم، فزمن الخداع الصهيوني والعربدة الأميركية سينتهي بالدم العربي والتضحيات على كل ثرى فلسطين ولبنان وسوريا واليمن…
لا تنتظروا أن تقطع دول التطبيع علاقاتها بالكيان الصهيوني، وأولها مصر الكبيرة التي صغّرها السادات واستتبعها ووعد شعبها بالانتعاش الاقتصادي وانتهاء زمن الفقر مع تدفق خيرات أميركا ونعيم الانفتاح، بدلاً من القطاع العام والعدالة الاجتماعية في زمن جمال عبد الناصر المعادي للهيمنة الأميركية.
يتفرج نظام التطبيع على نزيف الدم الفلسطيني ولا يفتح المعبر الفلسطيني-المصري الذي يفترض أنه خاضع للسيادتين المصرية والفلسطينية، ولا يستجيب لهتافات جماهير مصر الحرّة المطالبة بفتح المعبر لإدخال التموين والدواء والوقود ونقل الجرحى النازفين في مستشفيات غزة التي نفد منها كل شيء.
أهذا هو دور مصر؟ أهذا هو تاريخها وحضورها؟
لا أحد يطالبها بأن تحارب، ولكن على الأقل أن تسعف أبطال فلسطين الذين حموا بوابة مصر الشرقية التي كان الفراعنة يحشدون جيوشهم ويذهبون للحرب عندما يقتحمها الأعداء!
الأمة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وهو تاريخ لنهوض جديد لها، تقف في مفرق طرق، أحدها يؤدي إلى المستقبل، والتحرير، والسيادة، وهو ما ترتعب منه دول التطبيع وحكامها، وتتمنى أن يغرب بسرعة…
ولكن فجر الأمة يطلع من فلسطين، وتحديداً من قطاع غزة، مبشراً بتغيير جذري يطهر بلاد العرب من كل الاحتلالات. فيا مرحباً به مهما كانت تكلفته باهظة، فكل شهيد غال وعزيز، وهل تتحرر الأوطان بغير التضحيات؟!
نقلاً عن الميادين