كيف عززت معركة “طوفان الأقصى” مسار ردم الفجوة المذهبية؟
القضية الفلسطينية المعيار الأساسي لكل المشاريع الوطنية والقومية، وأصبحت فيصلاً أساسياً لنجاح الرؤى السياسية أو فشلها بعد نكبة فلسطين 1948، كما أصبحت وسيلة لتسلّق سلّم السيطرة على السلطة.
أحمد الدرزي
عانت المنطقة العربية والإسلامية، في إثر الثورة الإسلامية في إيران، من صراعات دموية متنقّلة، أخذت بظاهرها بعداً مذهبياً بين السنة والشيعة، في معظم المناطق التي يوجد فيها الطرفان، مما أعطى انطباعاً، بأن هذه الصراعات ذات خلفية طائفية، والآن بعد حرب طوفان الأقصى، هل آن لهذه الصراعات أن تكشف دوافعها الحقيقية، بما يساعد على تغييب الواجهة المذهبية، بما يؤمن فهماً ووعياً أفضل، ينقل الشعوب إلى ساحة الاتحاد حول فلسطين، وما يمكن أن تتركه من نتائج إيجابية، على لقاء أكبر، يمنحها الحياة ضمن أطر سياسية عابرة للحدود الحالية؟
سيطرت الحركات الوطنية على مسارات السياسة، في المنطقة العربية والإسلامية، بعد تحطيم الإمبراطورية العثمانية، التي كانت بالأصل آيلة للانهيار التلقائي، مما ترك أثراً واضحاً لسيطرة هذه الحركات، بتعاطيها مع القضية الفلسطينية منذ وعد بلفور، وبروز مخاطر إيجاد كيان غريب وظيفي عن المنطقة، فأخذت بعداً أقرب للجانب العلماني اليساري، غير المعادي للدين، وخاصةً في المنطقة العربية المجاورة لفلسطين.
شكَّلت القضية الفلسطينية المعيار الأساسي لكل المشاريع الوطنية والقومية، وأصبحت فيصلاً أساسياً لنجاح الرؤى السياسية أو فشلها بعد نكبة فلسطين 1948، كما أصبحت وسيلة لتسلّق سلّم السيطرة على السلطة، والاستمرار بالسياسات المتبعة، وفي كل الأحوال ترسّخت فلسطين في العقل الجمعي الحاكم على أي مشروع سياسي، وغاب في هذه المرحلة، البعد الديني والمذهبي والطائفي عن تكوينات هذه الحركات، فكان الاختلاف والتنافس والصراع واضحاً بين هذه القوى، وأنه مبني على أساس سياسي، فأخذ أبعاداً قومية وماركسية في أغلب الحالات.
بدأ الجانب الديني بالحضور الجمعي، بعد الهزيمة الكارثية لسوريا ومصر في حرب 1967، ولاقى تشجيعاً كبيراً بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتشجيع الرئيس أنور السادات للتيار الديني، والإفراج عن قادة الإخوان المسلمين، وذلك لإنهاء التيار القومي الناصري، الأكثر جذرية في المحافظة على ثِقل مصر ودورها الجيوسياسي المركزي، والتحضير لرحلة تسليم دور مصر المركزي في المنطقة العربية وأفريقيا لقادة “تل أبيب”.
في مواجهة هذا التحوّل نحو الفراغ، وبدء نجاح “إسرائيل” بتثبيت واقع جديد في الصراع، برز تحوّل مختلف في الهضبة الإيرانية، مع نجاح الحركات المتتابعة في مواجهة الغرب، ابتداءً من ثورة التنباك 1891، والثورة المشروطة (الدستورية) 1905، ونجاح مصدق بالتأميم، ثم الانقلاب عليه 1953، وانتفاضة المدرسة الفيضية 1963، ثم نجاح الثورة الإسلامية عام 1979، والخيط الجامع بين كل هذه الثورات هو المواجهة مع الغرب، وتحقيق الاستقلال، وهي ذات سمات خاصة بإيران، فهي مزيج من ثقافة حضارية متجذرة تاريخياً، ببعد ديني مذهبي جامع لشعوب متعددة الإثنيات، يشكّل فيها المذهب الشيعي المظلة الوطنية الجامعة، وهي غير قابلة للتعميم.
شكّل هذا التحوّل الجذري الكبير في إيران، مخاطر كبرى على الاجتياح الغربي لمنطقة غرب آسيا سياسياً، وقرب تعويم “إسرائيل” كسيدة للمنطقة، بعد توقيع اتفاقيات كامب ديڤيد، بين مصر و”إسرائيل”، وذهاب أغلب الأنظمة العربية نحو التطبيع مع “إسرائيل”، وبقاء سوريا وحيدة خارج السرب العربي، إضافة إلى العراق والجزائر وليبيا، وهي الدول البعيدة عن المواجهة المباشرة. فكانت إيران هي التي ملأت الفراغ الإقليمي لغياب مصر، بفعل التزامها بالقضية الفلسطينية، انطلاقاً من شرعية التأسيس، التي بني عليها النظام السياسي الجديد في طهران، وبفعل العمل على الدور الإقليمي، الذي لا يمكن أن يتحقّق إلا بتغييب الدور الإسرائيلي الوظيفي، المانع لأي قوة سياسية في محيطها الإقليمي، من أن تأخذ حجماً أكبر من دورها الوظيفي، الذي ستفقد بفقدانه مبررات وجودها واستمرارها.
أدّى الاختلاف السياسي بين قوى عربية، تندفع ضمن الإطار الغربي، الذي يعمل على العلاقة مع “إسرائيل”، دوراً أساسياً في إبراز الجانب الطائفي في اختلاف التوجّهات السياسية للدول، واعتباره أهم أداة من أدوات الصراع، وخاصةً بعد الحرب العراقية الإيرانية، اجتياح “إسرائيل” للبنان، ووصولها إلى قلب بيروت، وما ترتّب على ذلك من ظهور مقاومة جديدة، ممثّلة بحزب الله، الذي ارتكز إلى البعد الإسلامي الشيعي، ومبدأ ولاية الفقيه، كرؤية سياسية للصراع.
والذي ترافق بعد ذلك مع ظهور حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، التي ارتكزت على رؤية إسلامية سنية المذهب، للصراع مع “إسرائيل”، استطاعت توفير الغطاء الإسلامي العام للمشروع الإسلامي البديل عن المشروع القومي، ومثلَّت نموذجاً لتجاوز البعد الطائفي والمذهبي، في توحيد الرؤية السياسية، وفي المواجهة مع الغرب، بالتبنّي الجذري للقضية الفلسطينية، التي تُعتبر نقطة مقتل النظام الغربي، المتحكّم في مسارات السياسة العالمية، منذ أربعة قرون.
أدّت حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي تأسست عام 1987، دوراً إضافياً أساسياً ومهماً، في تأكيد البعد السياسي للاختلاف، وليس الطائفي، بدخولها في دائرة تنسيق العمل المقاوم، بعد عودة مبعدي قادتها من مرج الزهور اللبناني، إلى فلسطين 1993، وإقامة قادتها السياسيين في دمشق، قبل حصول الشرخ السياسي داخلها، كموقف سياسي تجاه الحرب في سوريا، وعليها، وبالرغم من ذلك فإنها استطاعت تجاوز هذا الشرخ والعودة، لتؤكّد من جديد، اصطفافها السياسي، ضمن المشروع المقاوم للغرب.
ازدادت حدة استخدام الخلاف المذهبي، وتوسّعت الهوة بين السنة والشيعة، في إثر الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، واصطفاف قوى سياسية شيعية وازنة مع الاحتلال، بحجة استبعادهم من السلطة، منذ احتلال بريطانيا للعراق، وفي إثر ثورة العراق 1920، التي رسَّخت السلطة بأيدي العراقيين السنَّة، فكان هذا التغيير في بنية السلطة العراقية، مشعر خطر جديد، للدول العربية المصطفة ضمن المنظومة الغربية، خشية انقلاب العراقيين على موقفهم المتعاطي مع الاحتلال الأميركي، وتواصلهم مع إيران، مما يشكّل انقلاباً جيوسياسياً كبيراً في المنطقة، يستطيع إيجاد محور ممتد من شرق المتوسط إلى أعماق شرق آسيا.
توسّع الاستخدام السياسي للمسألة الطائفية، في الصراع الإقليمي والدولي، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ضمن المشروع الأميركي للتغيير الجيوسياسي في منطقة غرب آسيا، وأخذ أبعاداً خطيرة في مناطق وجود أبناء المذهبين، وألقى بظلاله على الوضع الداخلي للدول، في منطقة غرب آسيا، ليمتد من باكستان وأفغانستان إلى شرق المتوسط.
خبت الاستخدام السياسي للمسألة الطائفية، بعد حرب تموز 2006، وانتصار المقاومة من جديد في حربها، مما عزز إظهار البعد السياسي للاختلاف بين القوى والدول، التي اصطفت في الحرب بين مدافعين عن “إسرائيل” وبين من يواجهونها، بما يؤكد من جديد أن بعد الاختلاف الطائفي، لم يكن سوى أداة من أدوات الصراع، ليعود من جديد في الحرب السورية، بعد أن قامت الولايات المتحدة، بإشعال “ثورات الربيع العربي”، من تونس إلى سوريا، في أكبر عملية تغيير جيوسياسي، لمواجهة تهديدات النظام الدولي الجديد المتنامي.
انحسر الاستخدام السياسي للاختلاف الطائفي بشكل كبير، بعد الحرب في أوكرانيا، واصطفاف المملكة العربية السعودية جزئياً مع روسيا بحربها، ورفضها للعقوبات الغربية على روسيا، وقبل ذلك عندما رفعت يدها عن التيارات السلفية التكفيرية، واعتراف ولي العهد محمد بن سلمان، بأن هذه التيارات تمّ تشكيلها، بناءً على طلب الولايات المتحدة.
يأتي تعليق المستشار السابق، في البنتاغون الأميركي، دوغلاس ماكغريغور: “إسرائيل” تفعل اليوم شيئاً لم يقم بفعله أحد سابقاً على الإطلاق، وهو توحيد السنة والشيعة ضدها، وعلينا حماية “إسرائيل” من نفسها، ليؤكد دور الغرب في إثارة الصراعات، بين الجماعات البشرية، على أسس دينية ومذهبية وقومية وإثنية، وقد نجح بذلك في المراحل السابقة، استناداً لمعرفته بنقاط ضعف الجماعات البشرية، وتاريخ العلاقات فيما بينها.
قد تكون ملحمة طوفان الأقصى، هي الأكثر تعزيزاً لمسار ردم الفجوة المذهبية، بعد أن كشفت بعمق، أن فلسطين برمزيّتها العالية، ومحوريتها الكونية، في مواجهة نظام الهيمنة العالمي، لم تؤدِ دوراً فقط، بتعرية التوجّهات السياسية، للدول والقوى السياسية على مستوى العالم الإسلامي، وإنما على المستوى الإنساني العالمي، وتحوّلت إلى نقطة جذب واستقطاب، للصراع على مستقبل البشرية، وإنهاء الدور الغربي، المسؤول الأول عمّا تعانيه البشرية من ويلات وحروب وإفقار.شش