الجهاد الإسلامي ومواجهة التيه..
بقلــم: عبد الرحمن شهاب
المُتابع لحركة الجهاد الإسلامي على مدار تاريخها، يقف أمام حركة تتصف بالجرأة والوضوح في الإعلان عن مواقفها، بغض النظر عمّا يُمكن أن يترتب على ذلك من أضرار قد تقع على الحركة أو أفرادها أو قيادتها؛ الأمر الذي كبّد الحركة عبئًا خلال مسيرتها، وفي محطات عديدة وضع أمامها سدودًا حدّت من تمددها وانتشارها في المجتمع الفلسطيني، وحواجز أمام كسب تأييد واسع لها في المجتمع العربي والإسلامي، وبالتالي تقييد الدعم المادي لها.
على الرغم من هذه الصورة النمطية التاريخية، إلا أن المتابعين قد يلمسون تغييرًا في اللغة الدبلوماسية نحو التصعيد منذ تسلم الأمين العام الحالي أ. زياد النخالة مهمته كأمين عام للحركة، خلفًا للراحل د. رمضان عبد الله، الذي كان يبدو وكأنه أكثر مرونة ودبلوماسية من سلفه المؤسس د. فتحي الشقاقي. ولكن السابر لغور تصريحات الأمناء العامين الثلاث يجد أن القاسم المشترك هو الوضوح في الموقف، والوقوف على مؤشر البوصلة، والفهم العميق لمخططات التآمر على القضية الفلسطينية، والحساسية العالية للمس بمسار المقاومة أو تهديدها والعبث بها، وإن ما يُلمس من وضوح – ربما يعتبره المراقبون زائدًا عن الحد للأمين العام الحالي – في تقديرنا ينبع من عامليْن أساسييْن:
الأول: حجم المؤامرة وإطباق الخناق على القضية الفلسطينية والمقاومة وحاضنتها وحلفائها ومصادر دعمها هو أشد شراسة من أية مرحلة سابقة.
الثاني: يعود إلى أن شخص النخالة لم يتآكل على مدار أكثر من عقديْن كان فيهما نائبًا لأمناء عامين سابقين، وبعدها خمسة سنوات أخرى أمينًا عامًا للحركة؛ فلم يؤثر عليه أيّ تغيير في المنطقة والإقليم ممّا قد يبدو أمرًا يستحق تغيير الخطاب.
كان تركيز رمضان عبد الله على التحذير من مسارات تسعى لتمزيق الصف الفلسطيني والقضاء على حركة التحرير، كانت تنهيدته المعهودة تكاد تلفظ قلبه معها، وفي كل مرةٍ كان يؤكد على بوصلة العلاقة بين غزة والضفة، بأن الضفة هي التي حررت القطاع وأن معركة القطاع ليست هي المعركة الأخيرة؛ بل على حدّ قوله “كسر العظم هناك في الضفة”، ومن هنا فإن وضوح الخطاب إلى حد الصدمة – الذي تعودنا سماعه من الأمين العام الحالي – إنما يأتي من خلال شعورة بخفوت أصوات المنذِرين، ممّا يضاعف الواجب المُلقى عليه، لأنه يجب أن يبقى من يقول ذلك دون مواربة، ويجب أن يروق ذلك لمن تعذر عليهم الوضوح في الخطاب (لأسباب كثيرة) كونه يقوم بالواجب عنهم، فبقاء جزء منا على الجبل لا يسيء لمن يخوضون معركة من أجل المواطنين في سفح الجبل، وفي هذا مصلحة للجميع، كل من يقاوم ويحرص على تصويب المسار؛ فأن يبقى الجرس معلقًا أهم ألف مرةٍ من أن نشبه بعضنا بعضًا حد التماهي , خلال المسار الطويل للمقاومة.
قول الكلمة الشجاعة يحتاج قوة، خصوصًا في هذا الزمن، فليس سهلًا الحديث عن الموقف العربي برمته وإدانته من “كامب ديفيد” حتى التطبيع، خصوصًا في الوقت الذي تفتح فيه مصر أبوابها للحركة رغم المخاطرة بأنه سيكون لذلك ثمنًا قاسيًا على الحركة، ولكن قوله يؤكد أن الحركة غير مستعدة لدفع أيّ ثمن، ولو فقط مقابل تشويش البوصلة.
مساري الصراع
من الواضح أنه لم يعد في المنطقة أكثر من مساريْن: المسار الأول هو مسار المقاومة الذي تدعمه الإرادة الشعبية العربية والإسلامية، والذي يُطبق عليه الخناق إقليميًا ودوليًا، والذي ما زال عصيًا على الكسر، وعصيًا على التطويع والاحتواء.
المسار الثاني هو المسار الذي انطلق من “كامب ديفيد” مرورًا بـ “أوسلو” حتى التطبيع، وهو مسار النظام الرسمي العربي، وقد أصبحت (م. ت. ف) من ضمنه إلى أن تلاشت وأخذت دورها السلطة. المسار الذي تحدث عنه النخالة بأنه يرى فلسطين أصبحت إسرائيل، ووصفه بأنه في الحقيقة ليس مسارًا عربيًا، بل هو المسار الإسرائيلي نفسه، الذي دمّر الجيوش العربية وأغرقها في مشاكلها وحوّل دولها إلى دول فاشلة، أملًا في إسقاط الفلسطينيين في هذا الوحل؛ لكن استعصت عليه فلسطين. منذ بداية الصراع، حقق العدو انتصارات عسكرية علينا، لكن بعد كل مواجهة يعتقد بأنه انتصر فيها، كان يخرج إليه من تحت الأنقاض جيل وفكر وحركات أكثر إصرارًا على المواجهة، وأكثر شراسة عند اللقاء، وأكثر ارتباطًا بالأرض، وأكثر إيمانًا بزوال إسرائيل.
العدو الإسرائيلي وصل إلى قناعة بأن مسألة الإخضاع غير مُمكنة مع الفلسطينيين، ولذلك يسعى إلى البحث مع الإدارة الأمريكية الحالية، وبتنسيق عالٍ مع المسار العربي، إلى وسيلة للاحتواء، فلم يعد يتطلع لنزع سلاح المقاومة بالقوة، فهذا أمر تجاوزته واقعية تفكير الاحتلال، ولكنه يتوقع أن الاحتواء مُمكن من خلال زرع الشقة بين المقاومة وحاضنتها، وذلك يتطلب خطيْن متوازييْن يجب ألا يلتقيا:
الخط الأول: استمرار الحصار الخانق الذي يجعل الموطن يتطلع إلى مخرج من هذا الاختناق ويسير بسرعة نحو أيّ انعتاق، وخلق حالة رخاء في الضفة الغربية وحالة معاكسة لها في غزة ليشعر المواطن بعبثية المقاومة ورفاهية الابتعاد عنها. إنها مسيرة طويلة قد تستغرق أجيالًا لينشا جيليْن في زمن واحد منقطعيْن تمامًا، غرباء، ليس بينهما لغة مشتركة في الخطاب.
الخط الثاني: إطلاق الآمال في الهواء للجيل المحاصر، والحديث عن الرفاهية والتسهيلات وتدفق الأموال للقطاع، وذلك خلال جولات سياسية ودبلوماسية مكوكية لا يُعلن عن فشل أيّ منها، فقبل فشل إحداها تكون البدائل جاهزة؛ رزمة من الأوهام، وهكذا لا نصل إلى اليأس الذي يخلق الانفجار، ويبقى أنفنا فقط فوق الماء، على حد تعبير أفيغدور ليبرمان، وزير حرب العدو آنذاك.
الأزمة في مسار المقاومة
لا شك بأن هناك تشابك إشكالي بين الثلاثي: الحكومة في غزة (التي صُنفت كحكومة مقاومة)، المقاومة، والمواطن الذي من المفترض أنه مَن يختار الحكومة لخدمته. فمن جانب، يقع على الحكومة أن توفر للمواطن حياة كريمة كما يتوقع منها، ومن جانب آخر تتوقع منها المقاومة أن توفر لها الغطاء السياسي والخطاب المقاوم الكافي لحماية مقدراتها وعناصرها ومشروعها والتسهيلات لاستمرار المواجهة مع العدو.
كلما اشتد وطال الحصار على القطاع؛ كلما ازدادت حدة الأزمة، وتراجعت قدرة الحكومة على الموافقة بين متطلبات الحياة الكريمة وبين المقاومة.
يُدرك الأمين العام لحركة الجهاد أن الشعب لن يكون فدائيًا على مستوى التضحية الشاملة، ولكنه يُمكن أن يكون جزءًا من الثورة، لأن الأولوية للشعب هي الاستمرار في الصمود على أرضه، وإذا خُير بين البقاء واستمرار الصمود وبين شكل من أشكال المقاومة؛ فقد يتنازل عن أشكال محددة على أن يستمر الصراع دون الخضوع للغاصب. ومن هنا، يجب على المقاومة ألا تسمح للشعب بأن يصل إلى حد الاختيار، ولا أن يكون الخروج من المأزق هو الحل الذي يوفره الاحتلال (كما في قضية العمال)، ولكن البحث عن بدائل من خلال مسار المقاومة، وأيّ بدائل تفرضها المسارات الأخرى (مسارات الاحتواء والتركيع) فيجب ألا تمر من خلال حكومة المقاومة، بل يلقى عبؤها على من خضع ونسق مع الاحتلال. فيد المقاومة يجب أن تبقى نظيفة، ودورها الحقيقي في التخفيف عن المواطنين هو تضحية المقاومة وحكومة المقاومة، من خلال رفع مستوى الشفافية في الإدارة الحكومية إلى أعلى مستوياتها وتفعيل أجهزتها بشكل يخفف البيروقراطية، فهذا يشكل جزءًا كبيرًا من تخفيف الاحتقان.
الخلاصة
العلاقة بين المساريْن (مسار المقاومة ومسار التطبيع والاحتواء الإسرائيلي) هي علاقة تناقض إلى حد الصفرية، وهكذا يجب أن تكون، ولكنها داخل مسار المقاومة وفروعها تكاملية، وكل تصريح أو فعل يرفض الاحتواء هو تعزيز لكل المقاومة، وكل تعزيز للصمود وتحسين حياة المواطن هو تعزيز للمقاومة، ولو قدمته الأنظمة المطبعة وإسرائيل من أجل شراء الهدوء. نحن لا نقلق على شعبنا إذا دخل للعمل في فلسطين المحتلة عام 1948، فقد كنا نقاوم ونعمل في الداخل، وهناك شهداء من عمالنا قاموا بفعل وطني بامتياز، ولكن حكومة المقاومة من المُفترض أن تنأى بنفسها عن تنسيق ذلك، فهناك ألف وسيلة لضمان الأمن والمتابعة.
هناك مجالات كثيرة لتحسين أداء الحكومة في غزة لصالح المواطن (حاضنة المقاومة)، بإمكانها القيام بها، فالرفاهية ليست فقط في توفير الأموال أو السماح بإدخال عدد من المواد عبر الحدود؛ بل إن أول مراتب الإصلاح هو الحفاظ على القائم الصالح وعدم السماح بإهداره، ملاحقة الفساد الزراعي والصناعي والإداري والمروري والنظافة والأسعار، والحفاظ على الحق العام والتزام القانون ومنع تحويل المقدرات الصحية والتعليمية وغيرها من القطاع العام إلى الخاص، لا يتطلب موازنات؛ بل يتطلب قرارات ووقوفًا عند المسؤوليات.