متلازمة الحصار والتصعيد
أسامة سعد
حصار فتصعيد فحرب فتسهيل فهدوء مؤقت ثم تعود الحلقة لتدور من جديد، تلك هي متلازمة الحصار والتصعيد التي ابتلى بها الشعب الفلسطيني منذ خمسة عشر عاماً ولا تزال دائرتها تدور وكأنها شقى الرحى التي تطحن بين جنباتها أمال وطموح الشباب الفلسطيني، وتستحق بقسوة حاجة ذوي الحاجات من المرضى والطلاب والمقيمين والمسافرين والتجار والصناع والحرفين ورجال الأعمال، وكلما تظافرت الجهود لوقف هذه الدورة الشيطانية اللاإنسانية، نجد في المقابل إصراراً وعناداً لمن يمسك بمقبض تلك الرحى ليدفعها بقوة للاستمرار في دورتها التي تحيل كل شيء إلى ذرات تشبه الرماد.
الحصار المفروض على شعبنا منذ خمسة عشر عاماً قضى على آمال آلاف من الشباب وحطم مستقبل آلاف من التجار والصناع والحرفين والزراع، وأحال حياة المدنيين إلى صحراء مقفرة لا تجد فيها أبسط وسائل العيش إلا بشق الأنفس، وجعل من الحياة مجرد تعاقب لليل والنهار على بقعة من الأرض لا يتغير فيها شيء، فيمر الزمان على المكان دونما يكون له أثر في تطور الحياة التي جَمُدَت منذ خمسة عشر عاماً.
المشاركون في الحصار أطراف ثلاثة، أولها عدوٌّ يرى في بقاء شعبنا تهديدً لوجوده على أرضنا الفلسطينية، ويعمل على إماتة الرغبة في الحياة في نفوس أبناء شعبنا كي تزدهر حياته وتنمو دولته، وطرف زعم يوماً أنه سيقيم دولة بعد ثورة، فأضحى سلطة تأكل بثديي التنسيق الأمني، أما الطرف الثالث فكان يوماً سنداً وعوناً لشعبنا وحاملاً لهم قضيته فأصبح اليوم ” وسيطاً ” بين الإحتلال وشعبنا الثائر.
ولما كانت المعادلة بهذا التعقيد أضحى ” الممثل الرسمي” أمام العالم لشعبنا يساهم في فرض الحصار ببعض “إجراءات” يتخذها أو على أقل تقدير لا يأبه لاستمرار الحصار المفروض من قبل الأطراف الاخرى، أملاً فيما يعتقده تحقيقاً لوحدة الشعب الفلسطيني، وكأن لسان حاله يقول إن تحقق الوحدة يجب أن يكون بالشكل والكيفية التي يراها ولو على حساب إبادة ما تبقى من شعبنا في قطاع غزة بعد 4 حروب مدمرة وحصار مستمر منذ خمسة عشر عاماً، أما الوسيط العربي فيا لعجب ما يصنع، ذلك إذا ما تصعدت الأمور وانفلتت الأحداث من عقالها وثارت ثورة شعبنا ضد الحصار وتحركت المقاومة، تجده يحث الخُطى في مساعيه ” لإعادة الهدوء” وفقاً لتفاهمات يَتفق عليها مع ” طرفي النزاع”، فإذا ما أخل العدو بهذه التفاهمات تراه يبدى أسفه ويعلن أنه ليس إلاّ وسيطاً يقرب وجهات النظر ولا يملك دون ذلك شيئاً، أما إذا فاض الكيل بالمحاصرين فعبّروا عن غضبهم بتسخين الجبهة مع العدو، فترى الوسيط يُعرض وينأي بجانبه ويغلق المعبر الحدودي بينه وبين المحاصرين احتجاجاً على “سلوك المحاصرين”، ذلك المعبر الذي لو فتحه الوسيط كأي معبر بين أي دولتين أو كيانين أو أي تسمية تشاء، لانتهى الحصار ولم يعد له أي قيمة ولما احتجنا.
بهذه الحالة من التشابك والتعقيد يعيش شعبنا المحاصر في قطاع غزة، فهل يمكن أن نصل يوماً لكسر هذا الحصار؟ أظن أن الحل يكمن في البوابة الجنوبية رئتنا التي نتنفس منها الهواء العربي، أما البوابات الشمالية والشرقية فلا كسر لها إلا بالتحرير ولا أمل في انتظار ما يقدمه لنا الاحتلال بدعوى ساذجة تقول ” هذه التزامات الاحتلال وفقاً للقانون الدولي”، فلو كان الاحتلال ومن ورائه من أسسوه يأبهون للقانون الدولي الذي صاغته عقولهم وكتبته أيديهم لما كان شعبنا تحت الاحتلال حتى يوم الناس هذا.
فهل يمكن لنا أن نفهم كيف يمكن للعدو أن يرفع عنك الحصار وهو يبنى وجوده على فنائك ودولته على أشلائك وتطوره على المساهمة في تراجعك وتخلفك؟ هل يمكن للعدو الذي يرقب عن كثب تطور المقاومة وإعدادها وتجهيزها أن يرفع الحصار الذي هو وسيلته لإضعاف هذه المقاومة التي تعنى له الفناء والموت؟ ولو قبل تحت الضغط ” على مضض” أن يخفف من إجراءاته في الحصار هل سيُبقى على هذا التخفيف لو شعر أن التخفيف ينعش الحاضنة الشعبية للمقاومة وسياسته تقوم أصلاً على خنق الشعب لينفجر بوجه المقاومة؟، إذن المعادلة مع العدو هي معادلة قتال وإشباك، ليست معادلة ضغط لفك حصار، ولو بقيت كذلك سينحصر العمل المقاوم تصعيداً وتهدئةً مع وتيرة الحصار تشديداً وتسهيلا ويبدو أن هذه هي المعادلة التي حُشرت فيها المقاومة دون أن تدري.
إذا فالتعامل مع الحصار يجب أن يأخذ بعداً آخر في التفكير ولا يجوز العودة لاجترار ما جُرّب من فعاليات ومحاولات كانت حصيلتها معادلة تصعيد مقابل تشديد وتهدئة مقابل تسهيل.
وأظن أن فك الحصار لا بد أن يكون من خلال البعد العربي المصري، بالوصول إلى تفاهم مع الرئاسة المصرية لإنهاء الحصار من خلال البوابة المصرية، وهي البوابة التي تَنفَّس الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تاريخياً عبرها هواءً عربياً نقياً بعيداً عن قذارة الاحتلال، صحيح أن موقف الرئاسة المصرية واضح ومعروف من هذه المسألة حتى اللحظة، ولكني أعتقد أن ما يبذل من جهود في هذا الإطار لا زال ضعيفاً، ولذلك لابد أن تتوجه كل الجهود من كل القوى الفلسطينية نحو التواصل مع الرئاسة المصرية والوصول بأي حال وبأي شكل لحل لمشكلة الحصار من خلال البعد العربي والإبقاء على العلاقة مع الاحتلال علاقة تناقض ومقاومة واشتباك بهدف التحرير.