المقاومة الفلسطينية تقلب مفاهيم الوعي رأساً على عقب
ما يجري الآن في فلسطين، بالرغم من قساوة المشاهد الآتية من هناك والتدمير والقتل الممنهجين والمتعمَّدَين للأطفال والنساء والشيوخ، يبشّر بإمكان تحرير الأرض، كل الأرض.
الانتصار الأخير، الذي سطَّرته المقاومة في فلسطين المحتلة، قلب المعايير والمفاهيم “الفكرية والتاريخية”، على مستوى “الوعي الجمعي” لدى “المجتمع الصهيوني والمجتمع العربي” داخل الكيان الحتلال و”خارجه”. فما عملت عليه دوائر التأثير ومراكز الدراسات التابعة للموساد الصهيوني، طوال 73 عاماً من تزوير للوعي الجمعي وتكريس مفهوم الهزيمة داخل “المجتمع العربي”، انقلبَ رأساً على عقب. وهذا ما تحدثت عنه مجموعة كبيرة من نخبة المجتمع الصهيوني، والتي كانت ضمن فرق العمل والتخطيط في القيادات الصهيونية المتلاحقة على مر العقود السبعة الماضية. وللدلالة على ذلك، أذكر هنا بعض ما قالوه:
ـ جدعون ليفي (صهيوني يساري) قال: “يأتوننا من تحت الأرض وعبر الأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلاً. حاربناهم بالعقول، فإذْ بهم يستولون على القمر الصناعيّ عاموس، ويُدخلون الرعبَ كلَّ بيت في “إسرائيل”.
ـ يوفايل ديسكين (رئيس “الشاباك” السابق): “لا أدري: هل هي نهاية البداية، أم بداية النهاية؟ نحن، لسنا فقط فاسدين، بل متعفِّنون أيضاً”.
ـ روني دانييل (محلل عسكري) : “أنا لست مطمئناً إلى أن أولادي سيكون لهم مستقبل في هذه “الدولة”. ولا أظن أنهم سيبقون في هذا البلد”.
ـ مئير داغان (رئيس جهاز الموساد العاشر): “إنني أشعر بخطر على ضياع الحلم الصهيوني”.
ـ أدليت وايزمان (أستاذة تاريخ): “لقد خدعتمونا. أنتم كَذَبة يا قادة إسرائيل. إسرائيل تحترق، وصواريخ غزة تنهمر على كل إسرائيل كالمطر. أنتم تكذبون، فإسرائيل تذهب من هزيمة إلى هزيمة، منذ حرب تموز/يوليو 2006 (لبنان) لغاية الآن”.
هذه عيّنة من نخبة متنوّعة من المجتمع داخل الكيان الصهيوني المصطنَع، تدل على أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية، في الدفاع عن المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، عكسَ صورة الوعي، وأثّر سلباً في الصهاينة لمصلحة الفلسطينيين، وأثبت أن ما كانوا يخطّطون له ويقومون به، لإلحاق الهزيمة النفسية داخل المجتمع العربي، بات مرضاً نفسياً يعانون بسبه هم أنفسهم. وأثبتت المقاومة، في عملياتها الجريئة وتضحياتها، أنها تنتهج النهج الحق والمسار الصحيح، بعيداً عن خيارات “منظمة التحرير الفلسطينية”، وخيارات “أوسلو”، التي جلبت الخراب للفلسطينيين، في الداخل والشتات.
فما عملت عليه القيادة الصهيونية، منذ نشوء الكيان حتى الآن، من تزوير للحقائق التاريخية، وعبر مزاعمها التلمودية الكاذبة، استطاعت المقاومة توجيه ضربة قاصمة له، قلبت المشهد رأساً على عقب، وجعلت كل الجهد الذي قام به المخطِّطون والمؤسِّسون للكيان يضيع هباءً. فأصبحت غزة المحاصَرة تدافع عن القدس المحتلة وأهالي الضفة الغربية وفلسطينيي الـ 48، بعد أن وحَّد مسار الأحداث الأخيرة الجهود الفلسطينية في الدفاع والمقاومة الشرسة بالصواريخ، وآخرها الإضراب الذي شلّ الكيان العبري، من البحر الى النهر. وبرهن أن الإرادة الموحَّدة للشعب الفلسطيني تستطيع أن تصفع كل جبروت الصهاينة، وتهزمه داخل الوطن المحتل.
ماذا يعني أن ينتفض فلسطينيو الـ 48، ويؤازروا إخوتهم في القدس المحتلة والضفة وغزة، في معركتهم ضد الاحتلال الذي عمل، منذ نشوء الكيان، على تغيير مفاهيم الانتماء الوطني الأصلي لهم، وأسبغ عليهم صفات “الوطنية المزيَّفة الإسرائيلية”، من خلال تزويدهم بجوازات السفر “الإسرائيلية”، وغسل أدمغتهم من خلال “منظمات المجتمع المدني” (NGO’s)، المموَّلة من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والقيادة الصهيونية، بهدف قلب الحقائق التاريخية، واللَّعِب على وتَر “الانتماء” الواحد إلى جغرافيا مسلوبة منهم أصلاً، واشراكهم في مجتمع واحد مع مستوطنين، عملت القيادة الصهيونية على جلبهم من أصقاع الأرض لجمعهم في فلسطين المحتلة، وإعطائهم هويةً واحدة تجمعهم بأصحاب الأرض الأصليين، وفق أسس صهيونية مزيَّفة.
إن انتفاضة فلسطينيي الـ 48 تدلّ على أن ما سعت “إسرائيل”، منذ عقود، لترسيخه من “مفاهيم” مزيَّفة عملت على زرعها في عقول الفلسطينيين، ذهبَ أدراج الرياح. وأعادت الانتفاضة الوعي الحقيقي للانتماء الوطني العربي لفلسطينيي الـ 48. فالوحدة الوطنية الفلسطينية أكثر ما يخيف قيادة الكيان الصهيوني. وعندما تدافع غزة عن القدس وأراضي الـ 48 والضفة الغربية، فهذا يعني أن فلسطين واحدة ولا تتجزَّأ، وأنها من البحر إلى النهر، في حدودها التاريخية، وليس وفق تقسيمات “أوسلو” وغيرها من اتفاقيات العار.
ما يجري الآن في فلسطين، بالرغم من قساوة المشاهد الآتية من هناك والتدمير والقتل الممنهجين والمتعمَّدَين للأطفال والنساء والشيوخ، يبشّر بإمكان تحرير الأرض، كل الأرض، ويُثْبت حدوث ذلك. وهذا ليس رأيي أنا، بل آراء “نخبة المجتمع الصهيوني”، التي سبقتني في قول هذا، وأرَّخت للهزائم المتتالية التي لحقت بهم، بدءاً من تحرير الجنوب اللبناني في عام 2000، مروراً بحرب تموز/يوليو على لبنان عام 2006 وانتصار غزة عام 2014. وجاءت الوقائع الأخيرة في فلسطين المحتلة لتُثْبتَ ذلك حقاً، وتجعل ما كان مستحيلاً فيما مضى ممكناً الآن، بحول الله وقوته تعالى.