لماذا جاء التّطبيع الخليجي مع “إسرائيل” ساخِنًا بينما نظيره المِصري والأردني “بارِدًا”؟ وكيف نجح كوشنر حيثُ فَشِل كسينجر؟
السّؤال المطروح بقوّةٍ حاليًّا في الكثير من البرامج الحواريّة في محطّات تلفزة إسرائيليّة وفي الصّحف وعلى وسائل التّواصل الاجتماعي هو عن الأسباب التي تجعل “السّلام” الإسرائيلي مع دول الخليج المُطبّعة في ذروة السّخونة، بينما نظيره المِصري ما زال باردًا، بل “جليديًّا” رُغم مُرور أكثر من أربعين عامًا على توقيعه؟ ويضرب هؤلاء الطّارحون له العديد من الأمثلة التي تُؤكِّد شرعيّة سُؤالهم، وآخِرهم المُستشرقة سمدار بيري، مِثل فشل رجال الأعمال الإسرائيليين في تسويق التّكنولوجيا المُتقدّمة في الأسواق المِصريّة، والاعتِداء الوحشي وإجراءات “النّبذ” والإذلال التي تعرّض لها المطرب المِصري محمد رمضان بعد نشر صور له يُعانِق نظيره الإسرائيلي عومير آدم في دبي.
الإجابة على هذا السّؤال واضحة ولا تحتاج إلى الكثير من البحث والتّنقيب، ومُلخّصها أنّ الشّعب المِصري بمُختلف فئاته يُعارض كُل أشكال التّطبيع مع “إسرائيل” لأسبابٍ دينيّةٍ ولأنّها في نظره تُعتَبر العدوّ الأوّل الذي يُهَدِّد أمن مِصر القومي واستِقرارها، ويُحاربها في عُمقها الإفريقي والعربي، وربّما يُفيد التّذكير بأنّ الجيش المِصري الذي خاض أربع حُروب ضدّ دولة الاحتِلال الإسرائيلي، هو الذي اغتال الرئيس محمد أنور السادات الذي وقّع اتّفاقات كامب ديفيد، وهو الذي أجبر الرئيس حسني مبارك على التنحّي، وأحبط مُخطّطاته لتوريث الحُكم لابنه جمال، وزجّ بمُعظم رجاله من الوزراء ورجال الأعمال الفاسدين خلف القُضبان، تجاوبًا مع مطالب ثورة يناير التي نعيش ذِكراها العاشرة هذه الأيّام.
صحيح أنّ هُناك تبادل للسّفراء والسّفارات، ولكنّ جميع السّفراء الإسرائيليين الذين خدموا في سِفارة حُكومتهم في القاهرة اشتكوا من “صقيع” العُزلة، و”حوائط الصّد” الرّسمي والشّعبي، واعتقال وتهميش كُل من حاول بناء الجُسور الاجتماعيّة أو السياسيّة معهم، والقائمة تطول.
هنري كيسنجر وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق، استخدم الأسلوب نفسه المُطبّق حاليًّا ضدّ الدول العربيّة المركزيّة المُعارضة للتّطبيع مِثل العِراق وسورية والجزائر، أيّ الحِصار الاقتصادي الخانق ثمّ إلقاء “جزرة” المُفاوضات والمُساعدات في الحالة المِصريّة التي أدّت إلى اتّفاقات كامب ديفيد بعد خوض حرب أكتوبر، واقتِحام القناة، وتحقيق انتصار عسكريّ كبير فريد من نوعه، لأنّه أزال الكثير من ترسّبات هزيمة حزيران وخيباتها، ولكنّه لم ينجح في فرض التّطبيع الشّعبي ليس لأنّه غادر السّلطة بعد خسارة رئيسه الانتِخابات وفوز الجُمهوري جيمي كارتر، وإنّما لأنّ الشّعب المِصري رفض هذه الاتّفاقات وأقدمت خليّة من جيشه على اغتِيال مُوَقِّعِهَا.
السّلام البارد بين مِصر ودولة الاحتِلال استمرّ حتّى أثناء تولّي حُكومة ما بعد الثّورة السّلطة في مِصر، ولعلّ اقتِحام المُتظاهرين للسّفارة الإسرائيليّة عندما تسلّقوا طوابقها بطريقةٍ غير مسبوقة ومحفوفة بالمخاطر، والعبَث بمحتوياتها في الشّارع، ومُحاصرة طاقمها في غرفة، وكادوا يقذفون بهم من الطّابق الحادي عشر لولا تدخّل الرئيس الأمريكي شخصيًّا، وهذا هو الدّليل الأبرز، والأقوى، على تَعَمُّق جُذور المُعارضة الشعبيّة المِصريّة للتّطبيع، ولو أقدمت هذه الحُكومة على قطع العُلاقات مع دولة الاحتلال فور تولّيها السّلطة، لربّما تغيّرت وقائع التّاريخ، وهذه قِصّةٌ أُخرى.
ما يُقال عن الشّعب المِصري يُقال عن نظيره الأردني أيضًا، فالتّطبيع اقتصر على الحُكومات، لكنّ النّموذج الأخطر والأسوأ له، أيّ التّطبيع، هو القائم حاليًّا بين السّلطة الفِلسطينيّة والاحتِلال الإسرائيلي، وشقّ التّنسيق الأمنيّ خاصّةً، الذي يُشَكِّل وصمة عار، علاوةً على كونه سابقة تاريخيّة، فلم تنخرط أيّ ثورة في التّاريخ بمِثل هذا النّوع من التّنسيق والعمل كفرع لأجهزة الاحتِلال الأمنيّة والتّعاون معها لقمع شعبها ومُقاومته.
المُطبّعون الجُدد سيندمون أشدّ النّدم على إقدامهم على هذا التّطبيع “المجّاني” أيًّا كانت أعذارهم، سواءً جاء تطبيعهم بارِدًا أمْ ساخِنًا، لأنّهم أضعف من مُواجهة المُخطّطات والأطماع الإسرائيليّة، وشهر عسلهم مع الحليف الإسرائيلي الجديد لن يُعَمِّر طويلًا، ولعلّ التّهديدات التي صدرت عن مُنظّمةٍ “مجهولةٍ” بضرب دبي بالصّواريخ على غِرار هُجومها الصّاروخي الأخير على الرّياض إنذارٌ مُهِمٌّ في هذا المِضمار، سواءً كانت هذه المنظّمة حقيقيّة أو وهميّة، والأهم من ذلك العُلاقات الخاصّة المُتميّزة لهذه الدّول بمِصر التي بدأت تهتز بعد تسريب معلومات مُؤكّدة تُشير إلى أنّ المُؤسّسة العسكريّة المِصريّة غاضبة وتشعر أنّها تلقّت طعنةً في الظّهر من جرّاء إقدامها على هذه الاتّفاقات التطبيعيّة وفي وَقتٍ تَقِف فيه هذه المُؤسّسة على حافّة الحُروب، وفي عدّة جبهات في الغرب (ليبيا) والجنوب (إثيوبيا) والشّمال (إسرائيل)، هذا غير جبهة الأزَمة الاقتصاديّة الداخليّة.
نحن في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” وقفنا، وسنظل، في الخندق المُعارض للتّطبيع واتّفاقات “السّلام” بكُلّ أشكالها، قديمها وجديدها على حدٍّ سواء، لأنّنا نعتبر هذا التّطبيع خيانة واستِسلام، خاصّةً بعد أن باتت نتائجه الكارثيّة واضحة للعيان، وتَصُب في مصلحة التَّوسُّع العُنصريّ الإسرائيليّ، وسيظل رِهانُنا دائمًا على الشّعوب، لتصحيح خطايا حُكوماتهم، ونَجْزِم بأنّ هذه الشّعوب لن تَخذِلنا مُطلَقًا.