جامعة النكسات العربيّة.. وفاء للغة الخشبية
بقلم حميد لشهب – ما أكبر انحطاط الحاكم العربي عندما يهنئ في مؤتمر وزاري دولة عربية أخرى على إقدامها على التطبيع واعتباره الحل الأمثل لفلسطين.
على امتداد 75 عاماً، لم تكفّ الجامعة العربية عن تحمّل مسؤوليتها كجامعة للفتن والعار وزرع التفرقة في الصف العربي، ولم يكن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في دورته العادية يوم الأربعاء 9 أيلول/سبتمبر 2020 عبر تقنية الفيديو (video conference) إلا شهادة إثبات على هذا الأمر.
وعوضاً عن أن يضع المؤتمرون الأصبع على التحدي الحقيقي الذي يعتبر عقبة تاريخية في وجه العرب: المشروع الصهيوني والتدخل السافر والدائم لأميركا في الشؤون العربية، بل قتل معنويات الإنسان العربي جراء هذه التدخلات، رفعوا أصواتهم عالياً، وطالبوا بردع “التدخّل الإيراني” ومطامع “الأخطبوط الإردوغاني” في المنطقة العربية.
بصريح العبارة، تجمع الدول العربية بهذه الطريقة على تفضيلها الاستعمار الصهيو-أميركي على الاتفاق على بداية حوار حقيقي مع جيرانها في إطار حوار الأخوة المسلمة، والتشاور في ما بينها لحل نزاعاتها، من دون اللجوء إلى طلب حماية إمبريالية من جديد للقضاء النهائي على الإنسان العربي والمسلم.
لقد كرَّس هذا المؤتمر، إذاً، سياسة النكسات وتخبّط “الحكام العرب” وضيق أفقهم في إيجاد حلول إقليمية لمشاكل إقليميّة، والغريب في الأمر، وهو ما لا يقبل دينياً ولا أخلاقياً ولا ثقافياً، أن المطبعين العرب يصدحون بميزات الارتماء في أحضان آل صهيون، بل اعتبروا أنه يدخل في باب السيادة الوطنية، وكأنّ الإمارات والبحرين مثلاً تتمتعان بسيادة تخولهما اتخاذ قرارات باستقلالية تامة، في حين أن الواقع يفضحهما يومياً، ويشي بأن الوصاية الصهيو-أميركية لم تعد تُفرض عليهما، بل إنهما يختارانها ضد إرادة شعوبهما طواعية، تحت ذريعة الاحتماء من ضربات إيران وتركيا. وبهذا، تفصح الإمارات مثلاً عن سبب من أسباب ارتمائها العلني في أحضان نتنياهو وترامب، على الرغم من أنها في “تقدّمها التقني” وصلت إلى المريخ، كما قرقش قرقاش.
في عز سياسة محاولة القضاء على القضية الفلسطينية واجتزازها من ذاكرة الشعوب العربية ووجدانها، ووفاء للغة الخشبية التي يبرع فيها الحكام العرب ووزراؤهم، يلمس المرء أن هناك نوعين من دعاة الحماية الصهيو-أميركية في الوطن العربي، فهناك من يستمر في التشدق بخطاب يعرف الجميع بأنه خطاب لا يؤمن من يتشدق به بدوره في “المحافظة على حقوق الشعب الفلسطيني” و”عدم السماح بضم أراضٍ فلسطينية من طرف الصهاينة”…
هؤلاء الخونة العرب، لا يخونون شعوبهم بقدر ما يخونون أنفسهم، وهم بذلك راضون، لأن حالة الاستلاب وانفصام الشخصية السياسي وصلت حدها لديهم، وهم يصيحون في مؤتمراتهم بتحرير فلسطين، ويبيعون مفاتيح القدس بأبخس الأثمان لعدو لن يرحمهم عندما تستكمل قبضته على فلسطين كاملة، لتصبح القلعة التي تضمن له أن يعيث فساداً بالعرب أكثر، ويدنّس ما يعتبرونه مقدساً، حتى وإن كان كرسي ملك أو أمير عربي ما أقدسَ من مكة والقدس مجتمعتين في الوقت الحاضر.
أما النوع الآخر، فلم يعد مضطراً إلى إخفاء “أخوته اليهودية” لآل صهيون، فـ”السلام” أصبح كلمة “سلام”، ومن يبحث عن “أل” التعريف، فعليه أن يبحث بالأحرى عما يجمع “آل” صهيون و”آل” الممالك العربية الحالية.
الغريب في الأمر هو جري البحرين حتى اللهاث لكي لا تفوتها مناسبة الانبطاح وهي توقع بيد ثابتة على خزيها وعارها. هذا النوع من الخونة هم الذين تراهن عليهم الإمبريالية الصهيو-أميركية لتطويع العرب الآخرين لإعلان تطبيع علاقاتهم مع الصهاينة، فمفعول الخوف الذي كانت أميركا تشتغل عليه ليأتي الخونة العرب الواحد تلو الآخر إليها، أتى بمفعوله، وما على الصهاينة إلا استقبالهم تباعاً، كخرفان دجّنتهم في السر منذ العام 1948.
ما أكبر انحطاط الحاكم العربي عندما يهنئ في مؤتمر وزاري دولة عربية أخرى على إقدامها على التطبيع واعتباره الحل الأمثل لفلسطين، فيما الأخيرة بريئة منهم، لأنهم حتى الساعة لم يجدوا حلولاً لمشاكلهم الداخلية، فكيف بالوصول إلى حل لمشاكل الآخرين!
عُمْر البحرين لا يتعدّى 40 عاماً، ولم تستوفِ الإمارات الخمسين. وقد اعترفتا بحقّ استعمار يغتصب منذ 70 سنة دولة يتجاوز عمر أصغر شجرة زيتون فيها ألفي سنة.
لم يعد ما سُمي بهتاناً وزوراً جامعة الدول العربية إلا مجموعة من الدول التي تقايض المحافظة على كراسيها بالإعلان العلني عن أنها أصبحت “جامعة الدول العربية الصهيو-أميركية”، وسيشهد التاريخ للإمارات والبحرين بأنهما البوابة العريضة التي فُتحت لتضحية الحكام العرب بشعوبهم قبل نحر الشعب الفلسطيني كفدية لاعتراف آل صهيون بهم كأبناء عمومة حقيقيين.
في تيههم الوجودي، وهوس الخوف على مصالحهم وعروشهم، وإخفاقهم الحقيقي في بناء دولهم على أسس شعبية تعترف بهم، لم يجد حكّام هذه الدول إلا الاحتماء تحت الشجرة الصهيو-أميركيّة من احتمال صحوة شعوبهم وتنبّهها إلى الهاوية التي يحفرونها لها.