الخيانة والتآمر.. جذور جينية لدى أنظمة المنطقة
كتب – حسني محلي
منذ وعد بلفور، تآمر أجداد الأنظمة العربية، لا على فلسطين فحسب، بل على كل القضايا الوطنية والقومية، خدمةً للمشروع الصهيوني. لقد قيل وسيقال الكثير عن تآمر أنظمة الخليج وما تبقّى من دول عربية تنتظر دورها للإعلان عن ولائها لسيدها الحقيقي “إسرائيل”، وهذا ليس بجديد، فمنذ وعد بلفور، تآمر أجداد هذه الأنظمة، لا على فلسطين فحسب، بل على كل القضايا الوطنية والقومية أيضاً، وكلّ من موقعه، وبالدور المنوط إليه، خدمةً للمشروع الصهيوني جملةً وتفصيلاً. وكصحافي منذ 43 عاماً، حضر كل الحروب، وزار كل الدول، والتقى عدداً كبيراً من الزعماء، أستطيع أن أقول بكلّ وضوح إنّ كل ما رأيته وعشته في هذه المنطقة كان، وما زال، في هذا الإطار الَّذي أثبتت التطورات الأخيرة أنه لن يتغيّر مع بقاء الأنظمة ومن معها من العقليات المتعفّنة. وبعد 19 عاماً من أحداث 11 أيلول/سبتمبر التي نفَّذها 19 إرهابياً (15 سعودياً) من القاعدة، قررت واشنطن أن تصالح طالبان بعد أن قتلت أسامة بن لادن في أيار/مايو 2011، أي مع بداية “الربيع العربي”، فحلَّت داعش و”النصرة” وأمثالها محل القاعدة التي كانت صنيعة المخابرات الأميركية والباكستانية، وبتمويل سعودي وإماراتي بامتياز. وفي الذكرى الـ19 لأحداث 11 أيلول/سبتمبر الَّتي ساعدت واشنطن على إحكام سيطرتها على المنطقة، في إطار ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، بدءاً باحتلال العراق والعدوان على لبنان (تموز/يوليو 2006)، ثم “الربيع العربي”، أعلن ترامب استسلام البحرين لـ”إسرائيل”، وهي أساساً معقل الأسطول الخامس الأميركي، حالها حال الإمارات. وبعد التوقيع على وثيقة الاستسلام في البيت الأبيض، تنتظر العديد من الأنظمة أن “يرحمها” الرئيس ترامب، ويعلن عن اسمها في مسلسل الاستسلام، ومن المتوقّع له أن يطال قريباً جداً السّعودية، ولكن بعد أن يصبح الأمير محمد ملكاً بدلاً من والده الذي “سيحال قريباً إلى التقاعد أو توافيه المنية”، كما أحال الأمير حمد آل ثاني نفسه إلى التقاعد في 25 حزيران/يونيو 2013، قبل أيام من انقلاب السيسي على الإخوان المسلمين، فحل محله الأمير تميم ابن الشيخة موزا بدلاً من أولاد زوجته الأولى! ومع التّذكير بالتسجيلات الصوتية من خيمة القذافي التي تناولت مساعي آل ثاني للتخلّص من آل سعود، فالجميع يعرف مدى “سخافة” التنافس الشخصي بين الأميرين محمد وتميم، فكلاهما “طويل ووسيم وغني وشاب وهابي!”، وإلا فما المشكلة بينهما؟ ولماذا أعلنت الرياض، ومعها أبو ظبي والمنامة، الحرب على الدوحة، فيما كانوا، وكما يقول المثل، “كلهم في الهوى سوا” في سوريا وليبيا وبدايات “الربيع العربي” عموماً؟ ثم لماذا تستنجد الدّوحة بتركيا التي كانت معها في سوريا ضد إيران التي كانت كلّ هذه الدول تعاديها، لأنّها دعمت دمشق وحزب الله؛ مصدر الرعب الحقيقي والوحيد لـ”إسرائيل”؟ ثمَّ لماذا تحاول الدوحة أن تظهر وكأنها صديقة لإيران، وهو ما فعلته مع سوريا قبل “الربيع العربي”، عندما تودَّدت بشكل “مثير” إلى الرئيس الأسد، ومعها الرئيس إردوغان، ثم أدّت، ومع إردوغان أيضاً، الدور الرئيسي في مجمل التدخلات في سوريا باعتراف حمد بن جاسم؟ ثم لماذا ننسى أن قطر والدول التي تختلف معها أو تعاديها، كما يقال لنا، تستضيف، ومعها تركيا (فيها 50 قنبلة نووية) التي تدعم الدوحة، قواعد أميركية تستطيع أن تحمي الجميع معاً أو تدمرهم كما تشاء، إذا كان ذلك ضرورياً لحماية الكيان الصهيوني، كما كانت تفعل في الخمسينيات والستينيات، أي بعد قيام “الدولة” العبرية التي حقّقت معظم أهدافها على الأقل حتى الآن. والسؤال: إذا حقّق آل سعود وآل نهيان وآل خليفة عبر تحالفهم مع تلّ أبيب تفوّقاً سياسياً ونفسياً على قطر، وهو ما سيساعدهم للتخلّص قريباً من آل ثاني، فهل سنرى الأمير تميم يرمي بنفسه بالكامل في الحضن الإسرائيلي، حتى يثبت ولاءه الأكبر لها وللوبيات اليهودية التي ستحميه؟ وفي مثل هذه الحالة، ماذا سيفعل حليف قطر الرئيس إردوغان، الذي يهدد “إسرائيل” ويتوعدها، ويعرف الجميع أنها تستعد للمرحلة الاستراتيجية الأهم، وهي السيطرة على الأنهار والبحار والمضائق التي ستساعدها على تحقيق النبوءات التوراتية والأساطير اليهودية؟ وهي الآن، ومن خلال خيانة الأنظمة العربية، في صدد السيطرة على خليج بصرى ومضيق هرمز وبحر العرب وباب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس، ومنها إلى شرق الأبيض المتوسط، وسيتسنّى لها حينها عبر علاقاتها مع أنظمة الخليج، أي الإمارات والبحرين والسعودية وعمان وجيبوتي والسودان وأريتريا، تضييق الحصار على سوريا ولبنان ومن يدعمهما إقليمياً، أي إيران، ودولياً، أي روسيا والصين. ولا نتجاهل حديث الإيديولوجية الصهيونية عن الحق التاريخي لليهود في كلّ دول المنطقة، بما فيها إيران والحبشة (روسيا أيضاً) والعراق واليمن ومصر والحجاز، حيث تتحدَّث هذه الإيديولوجية عن ضرورة مطالبة الدول العربية بالتعويض عن ممتلكات اليهود الذين غادروها عبر التاريخ، وبعد قيام “إسرائيل” التي سيرى الجميع قريباً كم هي جادة في هذا الموضوع. ولم تهمل “إسرائيل” كلاً من اليونان وقبرص الّتي أراد اليهود أن يقيموا فيها أول دولتهم في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني (1550-1560)، كما أرادت بريطانيا أن تساعدهم لإقامة مستعمراتهم الأولى هناك (أواسط القرن الـ19)، باعتبار أنها بوابة الوصول إلى فلسطين. ويفسر ذلك اهتمام “إسرائيل” لاحقاً بهذه الجزيرة، باعتبار أنها بوابتها الوحيدة للهروب في حال الحصار العربي/الإسلامي المحتمل، ولو بعد ألف عام. ويفسّر ذلك أيضاً أنَّ مرفأ اليخوت الذي بنته شركة إسرائيلية في الشَّطر الشمالي التركي من قبرص سمي باسم “البوابة” (Gate)، فيما تسعى “إسرائيل” إلى إقامة علاقات سياسيّة وعسكريّة واستخباراتيّة مع قبرص واليونان، العدوتين التاريخيين لتركيا، التي كانت أول دولة إسلامية تعترف بها في العام 1949، وشهدت علاقاتها معها فترات مختلفة من المد والجزر، ولكن لم تلحق بها أي ضرر أبداً، فقد كانت أنقرة قبل استلام حزب العدالة والتنمية السلطة نهاية العام 2002 (بعد عام من احتلال أفغانستان وقبل أشهر من احتلال العراق) على علاقة جيدة جداً مع اللوبيات اليهودية في أميركا، التي منحت إردوغان أوسمة الشجاعة السياسية لزيارته القدس ولقائه شارون في الأول من أيار/مايو 2005. كما استضافت أنقرة بيريز، وسمحت له بأن يخاطب البرلمان التركي، كما وافقت على انضمام “إسرائيل” إلى الحلف الأطلسي (كمراقب) ومنظَّمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، بعد أن أسقطت كلّ الدعاوى القضائية ضدها في المحاكم التركية والدولية مقابل 20 مليون دولار تبرّعت بها تل أبيب لضحايا سفينة مرمرة. ولم تؤثر كلّ هذه المعطيات، سلباً كان أو إيجاباً، في العلاقات الاقتصاديّة والتجاريّة بين “إسرائيل” وتركيا، التي لم تتأخّر في اتهام الإمارات والبحرين بخيانة القضية الفلسطينية، وهي لم تفعل من أجلها أيّ شيء، باستثناء الخطابات الحماسية للتضامن مع قيادات حماس الإخوانية التي غادرت سوريا بناءً على طلب أنقرة والدوحة، والأخيرة تتوسّط الآن بين واشنطن وطالبان، بعد أن كانت الرياض همزة الوصل بين الطرفين قبل حوالى 25 عاماً. ويبدو أنّ هذا التواصل، بأشكاله وأدواته الجديدة، سيستمرّ، والهدف لن يتغيَّر ما دامت الخيانة أثبتت جذورها الجينية لدى أنظمة المنطقة التي لا كرامة ولا شرف ولا دين لها، فالإسلام لا يقبل، وبأيّ شكلٍ كان، بما نراه من استسلام وخنوع لليهود، والقرآن الكريم قال عنهم ما يكفي، فيما قالت التوراة عن غير اليهود ما يكفي لاستعبادهم جميعاً أو القضاء عليهم بعد سلب إرادتهم، وهذا هو الهدف الأخير للصهيونية العالمية، التي تسعى إلى ترويض الشعوب العربية والإسلامية عبر الفقر والتجويع والترهيب والدمار، حتى تستسلم لها قلباً وقالباً، وإلى الأبد، وإلا لماذا هذا التآمر على لبنان وسوريا وإيران؟ ويفسر كلّ ذلك استمرار الأنظمة في التمثيل سمعاً وطاعةً، حتى يرحمها اليهود الَّذين يحكمون العالم، وعددهم فقط 15 مليوناً، وهو ما يتناقض في الحدّ الأدنى مع العقل والمنطق والتاريخ والدين. هذا بالطبع من دون أن نتجاهل أولئك الذين يساعدونهم عربياً وإسلامياً ودولياً، حيث السباق الجمهوري والديموقراطي في أميركا لخدمتهم، عبر اليهودي جاريد كوشنار أو كامالا هاريس المتزوجة من يهودي. يبقى هناك سؤال واحد وصريح، وهو: هل يمكن لليهود أن يكونوا بهذا الذكاء حتى يحقّقوا ما حقَّقوه حتى الآن أو أنّ التآمر شطارة بالنسبة إلى الأنظمة التي تتسابق في ما بينها لكسب ودّهم؟ هذا بالطبع إن لم يكونوا في الأصل يهوداً أيضاً! وسينتصر عليهم، من دون أيّ شك، أصحاب الحق الشرفاء من أبناء الشعب الفلسطيني، وما تبقى من الشعوب العربية الأصيلة، وما تحتاج إليه ليس إلا رؤية استراتيجية جديدة بعيدة من الاستنكار والتنديد والتحليلات السطحية، ومبنية على أسس علمية وعقلانية، تتطلب عملاً جداً وفعالاً وصادقاً وملتزماً بالديموقراطية التي تحترم إرادة الإنسان، بعيداً من الكذب والظلم والقهر والاستبداد والفساد، والأهم من كل ذلك الخيانة بكلّ أشكالها!