عطوان .. يكتب عن خطوة الامارات الغير مشرفة والمكللة بالعار
نعم.. هُبوط طائرة العال الإسرائيليّة في مطار أبو ظبي خطوةٌ تاريخيّةٌ ولكن في الرّكن “غير المُشرّف”.. الانتفاضة المسلّحة الثانية أغلقت قنصليّات تل أبيب في الدوحة ومسقط والثالثة ستُغلق “القادمة” في أبو ظبي حتمًا.. كيف وقفت فَخورًا على أنقاض السّفارة الإسرائيليّة في نواكشوط؟ فهل يُعيد التّاريخ نفسه في الإمارات؟
عبد الباري عطوان
ربّما يكون هُبوط طائرة “العال” الإسرائيليّة في مطار أبو ظبي الدولي، بعد مُرورها من الأجواء السعوديّة بمُباركةٍ رسميّة، خطوة تاريخيّة في نظر أصحابها، ولكنّها مُوجعة لكُلّ إنسان عربيّ ومُسلم شريف، ومُكلّلة بالعار، مِثلها مِثل كُل ما سبقها، وما سيلحقها من الاتّفاقات التطبيعيّة الفِلسطينيّة والمِصريّة والأردنيّة.
كان هُبوط هذه الطائرة وعلى ظهرها عُتاة الصّهاينة، في مطار الشيخ زايد في أبو ظبي منظرًا مُؤلمًا وصادمًا بالنّسبة إلينا، نحن الذين كنّا ننظر بغضبٍ إلى الطّائرات الإسرائيليّة المدنيّة التي تُرابط في رُكنٍ قصي من المطارات الأوروبيّة، مُحاطةً بمدرّعات وجُنود لحمايتها لأنّها تحمل علم دولة عنصريّة محتلّة سرقت أرض الآخرين، وفرضت عليها دولتها بالقوّة والدّعم الأمريكيّ، والحربيّة التي كانت وما زالت تقصف أهلنا في سورية ولبنان وقطاع غزّة.
وكان أكثر إيلامًا أن تحمل هذه الطّائرة اسم قرية الفالوجة المحتلّة التي قاومت وأهلها الأبطال العصابات الصهيونيّة أُسوةً بجميع القُرى والمُدن الأُخرى، وكانت مركز قيادة الجيش العربي المِصري الذي حُوصِر لاحقًا، ليعود منها الزّعيم جمال عبد الناصر وزملاؤه الضبّاط الأحرار إلى أرض الكنانة والتّحضير لثورة تمّوز (يوليو) المُباركة، والتصدّي لمُحاربة المَشروع الصّهيوني.
إنّه تطبيعٌ مجّانيٌّ بكُل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وهديّة لبنيامين نِتنياهو وتابعه كوشنر، ومُحاولة قد تكون يائسة لإنقاذ مُعلّمهما الأكبر دونالد ترامب من السّقوط في الانتخابات المُقبلة، ولن يعود، أيّ التّطبيع، على دولة الإمارات إلا بالاضطرابات وعدم الاستقرار وابتزاز “الشيلوكيين” الجُدد، وسوّاح يسرق مُعظمهم الفنادق والصّنايير والمناشف، ويحضرون معهم طعامهم ومياههم، واسألوا الأشقّاء الأردنيين والبحرينيين والأتراك.
ربّما تكون الأمّة العربيّة ضعيفةً أثخنتها جِراح الفتن والمُؤامرات التي تُطبَخ في الغُرف الأمريكيّة والإسرائيليّة السّوداء، وفي بعض العواصم العربيّة للأسف، ولكن هذا الضّعف لن يكون أبديًّا، وستَخرُج حتمًا من كبوتها، لأنّ رِهاننا دائمًا على الشّعوب وجِيناتها الوطنيّة المُتأصّلة فيها القضيّة الفِلسطينيّة.
ربّما يكون الشّعب الفِلسطيني ليس في أفضل أحواله، ويُعاني من خُذلان بعض حُكومات دول الجِوار في الخطّين الأوّل والثّاني، ولكن دوام الحال من المُحال، والحُروب معارك وجولات، فمَن كان يحلم أنّ هذا الشّعب يمتلك صواريخ تصل إلى تل أبيب وحيفا وعكّا والقدس المحتلّة، ويخترع البالونات الحارقة، والطّائرات المُسيّرة؟
يكفي التّذكير بأنّ الانتفاضة المسلّحة الثانية التي جاءت ردًّا قويًّا وفوريًّا على مُحاولات تصفية القضيّة الفِلسطينيّة في مُؤتمر كامب ديفيد عام 2000 أدّت إلى إغلاق “قُنصليّات” إسرائيليّة في الدوحة ومسقط، وسفارة في نواكشوط، ولا نَستبعِد أن تُؤدّي انتفاضة قادمة حتمًا إلى إغلاق السّفارة التي تُخطِّط دولة الاحتلال على فتحها في أبوظبي قريبًا جدًّا، والسّفارتين الأخريين في عمّان والقاهرة.
شهر العسل الإماراتي الإسرائيلي لن يُعَمِّر طويلًا، لأنّه سيكون حافِلًا بالصّدمات وخيبات الأمل، ولعلّ وقائع أمثاله في مِصر والأردن وموريتانيا أحدث الأمثلة وأكثرها تعبيرًا.
عندما زرت العاصمة الموريتانيّة قبل 18 شهرًا بدعوةٍ كريمةٍ من أُسرتها الصّحافيّة، طلبت أن أزور مقرّ السّفارة الإسرائيليّة المُغلقة، فقالوا لي إنّها لم تعد موجودةً، وجرى إزالة المبنى من جُذوره بالبُلدوزارات لإزالة كُل “الدّنس” الذي لحقه وجودها بالأرض الموريتانيّة، حسب توصيف أحد الشّعراء الكِبار، أمّا السّفارة الأمريكيّة التي عارضت بشدّةٍ إغلاق السّفارة ومارست ضُغوطًا كبيرةً على الحُكومة الموريتانيّة للتّراجع عن هذه الخطوة، فجرى مُكافأتها بإطلاق اسم القدس على الشّارع الذي تتواجد فيه، وإقامة نُصب لقبّة الصّخرة في الميدان المُقابل لها، وسُمّيَ بميدان الأقصى إذ لم تَخُنّ الذّاكرة.
هذا الارتماء التّطبيعي تحت أقدام الإسرائيليين، والاحتفالات الحاليّة، والقادمة، باتّفاقات السّلام المغشوش معهم ستُؤدّي إلى تعاظم نظَرات الاحتقار للعرب في أعين الأشقّاء المُسلمين، وتدفعهم إلى انتِزاع زعامة الأمّة الإسلاميّة، وربّما رعاية الأماكن المُقدّسة منهم، ولم يَكُن مُفاجئًا بالنّسبة إلينا ظُهور تكتّلٍ جديد، لدول مِثل باكستان وإيران وتركيا وماليزيا سيكون نُواةً لزعامةٍ جديدةٍ، تُؤسّس لمنظّمة تعاون إسلامي جديدة كبديلٍ لتلك الموجودة في جدّة، فالسّلام الذي تُريده الأمّتان العربيّة والإسلاميّة، ونُؤمِن به أيضًا، هو القائم على العدالة، وقرارات الشرعيّة الدوليّة، وليس السّلام التّطبيعي المجّاني والمُهين.
مُخطِئ مَن يعتقد أنّ الحُصول على طائرات “الشّبح” أو “إف 35” الأمريكيّة يُمكن أن يكون الجائزة الكُبرى مِن جرّاء هذا التّطبيع، لسببٍ بسيط، وهو أنّ طائرات “إف 16” السعوديّة والإماراتيّة والقطريّة (قبل انسِحاب قطر) لم تنجح في حسم الحرب في اليمن لصالح “التحالف العربي” وانهزمت أمام صُمود وشجاعة المُقاومة اليمنيّة، والشّيء نفسه يُقال عن دبّابة الميركافا الإسرائيليّة التي أُهينت أثناء العُدوانين الأوّل على جنوب لبنان عام 2006، وعلى قِطاع غزّة عام 2014، والحالُ نفسه ينطبق على طائرة الشّبح، ففي زمن الصّواريخ الدّقيقة والمُسيّرات غير المُكلِفَة، والإرادة القويّة تتغيّر المُعادلات.. والأيّام بيننا.