فلسطين المحتلة: دماء هنية لم تذهب سدى

لقد نجح هنية، في استشهاده، في إنجاز ما أخفقت مئات مبادرات التقريب بين المذاهب والأديان ومؤتمراتها طوال أكثر من ثلاثة عقود.

عريب الرنتاوي

هكذا هم القادة الكبار، يصنعون فارقاً جوهرياً في حياتهم وفي مماتهم… في حياته، كان إسماعيل هنية، “أبو العبد”، قائداً مجاهداً، تحت قيادته سطّرت حماس وكتائب القسام ملاحم بطولية، ستدخل تاريخ كفاح شعب من أوسع بواباته وأنبلها: سيف القدس وطوفان الأقصى. وهو الرجل، الذي سترتبط بقيادته الحركة، أكبر وأهم التحوّلات في الساحتين الفلسطينية والإقليمية، وصولاً إلى المسرح العالمي.

منذ أن اعتلى سدة المكتب السياسي للحركة، صار رمزاً وطنياً جامعاً، ورجل حوار وتوافق على المستوى الوطني. في منزله في مخيم الشاطئ، تم إبرام واحدة من أهم اتفاقيات المصالحة. والرجل عمل بنظرية “لاحق العيار لباب الدار”.

لم يترك فرصة للمصالحة والوحدة، من دون أن يطاردها والسعي لاستنفادها حتى آخر “قطرة”. في ظل قيادته، نجحت حماس في الارتقاء بمستويات التنسيق بين فصائل المقاومة في عزة، إلى مستويات أعلى، إذ انضوت تحت ظلال غرفة العمليات المشتركة، وهو ما ستتضح نتائجه العظمية، في مئات العمليات المشتركة التي طاردت جنود العدو وآلياته طوال الأشهر العشرة الفائتة.

كان رجل انفتاح وتوافق، سعى لتقريب حركته من عواصم سدّت أبوابها في وجهها. لم يتعب ولم يكل أو يمل. أذكر، في أول اتصال أجراه بي بعد تسلمه قيادة الحركة، أن طلب إليّ طرق كل باب في عمان، وإيصال رسالة إلى كل من يعنيهم الأمر في الأردن، مفادها أن الحركة تتطلع إلى أوثق العلاقات وأصدقها بالأردن، قيادة وشعباً. وجعل الرجل “المستشفى العسكري الأردني” في غزة منصة لإيصال الرسائل المباشرة، بعد أن غرقت رسائله من خلالنا ومن خلال غيرنا، في الماء.

لن نفيَ هذا الرجل حقه، وهو الذي تكثفت اتصالاتنا ولقاءتنا به منذ السابع من أكتوبر. كان يتحدث بكل عفوية واسترسال عن الطوفان، ما قبله وما بعده، وكانت الغصة تملأ حلقه، وهو يتحدث عن ألوف الأبرياء الذين يُستشهدون، من أطفال ونساء وشيوخ، في قطاع غزة، للضغط على المقاومة، وتدفيعها الثمن من كيس بيئتها الحاضنة. لم تفارق الابتسامة محيّاه في مختلف الظروف، ولم يغادره الأمل والإيمان بحتمية النصر، مهما “جاوز الظالمون المدى”.

تواضعه جمّ. قدرته على الاستماع لا حدود لها. يصغي باهتمام إلى ما يصدر عن محدثيه، ويدوّن الملاحظات التي يعتقد أنهما مهمة، تدعيماً لموقف حركته، أو تلك التي تستبطن اقتراحات بالتصويب والتعديل والإضافة، أو تفتح أبواباً جديدة، يتعين وُلوجها. أبو العبد، بعد سنوات سبع سمان، أمضاها في قيادة الحركة، كان نموذجاً مغايراً عما عرفناه من قادة طوال العقدين الفائتين، أولئك الذين انتقلوا من خنادق المقاومة، إلى مرابع الـ”VIP”.

عندما اتصلت به معزياً باستشهاد ثلة شريفة من أبنائه وأحفاده وأقربائه، بدا للحظة أنه هو من يعزيني، ويبارك لي شهادتهم. بدا صابراً مرابطاً محتسباً. وعندما اتصلت به ثانية لتقديم واجب العزاء بثلة جديدة من أهله وأحبته، قلت له “إنني تعبت من تقديم التعازي، ألم تتعب من تلقيها؟”.

رد ممازحاً في ظرف لا مطرح فيه إلا للجد: دماؤنا ليست أغلى من دماء أهلنا في القطاع، وكلنا مشاريع شهادة، ننتظر ولن نبدّل تبديلاً. وإذا كان نتنياهو يظن أنه، عبر ذلك، سيمسك الحركة من “يدها المجروحة” أو يضغط على قادتها ومفاوضيها، فلقد طاش سهمه.

يئس نتنياهو من استهداف عائلة هنية، القريبة والبعيدة، فقرر أن يأتي به شهيداً في طهران؛ في طهران، بكل رمزيتها. هنية، أمس، تعالى على جراحه، وكان أكبر من أن يصطاده نتنياهو باستهداف عائلته. وحماس، اليوم، تتعالى على مسلسل الفقد والتضحية، وهيهات أن ينجح أعداؤها في ثنيها عن طريقها، أو دفعها إلى خيارات لا تريدها ولا تستجيب لمصالح شعبها.

دماء أبي العبد لم تذهب هدراً
في مماته وشهادته، تتحول دماء أبي العبد هنية، إلى نار وبارود، تشعل جبهات الإسناد وتحيلها على خطوط أمامية في “المعركة الكبرى”، وتدخل المواجهة مع العدو في طور استراتيجي جديد. مركز ثقل المعركة يتوزع اليوم، وفق أقدار متلائمة، على أربع جبهات. والعدو الذي يُمضي جل ساعاته على مقربة من الملاجئ، يتحضر لاستقبال نيران الغضب والثأر والانتقام للدماء الزكية.

وغزة، التي لم تكن وحدها منذ الثامن من أكتوبر، باتت، اليوم، تترقب الفرج والانفراج، من الشمال والجنوب والشرق. والفرج قريب ما دام العالم بأسره بات يقف على قدم واحدة، والإقليم برمته بات يجلس فوق برميل بارود، ويقف على حافة هاوية سحيقة. فإما الهدوء والسلام لغزة، وإمّا ستكوي النارُ الأيدي التي تشعلها وتعبث بها.

دماء هنية حرّكت الساكن في جبهات الدبلوماسية والسياسة، والعالم، برمته، بات يدرك أن غزة هي المفتاح، وأن وقف الحرب عليها هو المدخل الوحيد لتفادي سيناريو الانفجار الكبير. تلكم نتيجة لم تأتِ من عبث، بل جاءت حصيلة صمود أسطوري للغزيين، ومقاومة باسلة لمقاتلي الكتائب والسرايا والألوية، وتضحيات جسيمة، مشفوعة بجرأة وإرادة وتضحيات جسام لجبهات الإسناد. تلكم نتيجة، كان لدماء أبي العبد هنية دورٌ حاسمٌ في تظهيرها.

وبقدر ما يمكن التنبؤ بأن الأيام المقبلة ستقودنا إلى الانفجار الكبير، بقدر ما يمكن القول كذلك، بأنها قد تحمل في طياتها “أمارات” الانفراج الكبير كذلك.

على أن دماء أبي العبد هنية ستذكر في تاريخ العالمين، العربي والإسلامي، بصفتها الرافعة الأعلى والأهم للتقريب بين مذاهب المسلمين وطوائفهم، وفي جمع شمل الأمة على اختلاف ديانات أبنائها وبناتها.

لقد أبّنته وصلت عليه، حضوراً وغيابيا، أهم شخصية جهادية سنية، حظيت بتشييع رسمي وشعبي مهيب في عاصمة الإسلام الشيعي في العالم، وقادت صلاة الجنازة على جثمانه، أرفع شخصية مرجعية في إيران، بحضور رسمي على أرفع المستويات.

وأعلنت الحداد على رحيله كبرى الدول السنية والشيعية في العالمين العربي والإسلامي، وصلى صلاة الغائب عن روحه الطاهرة ملايينُ المؤمنين من مختلف المذاهب الإسلامية، من سنية وشيعية وزيدية وأباظية وغيرها.

ومثلما ضجت المآذن بالتكبيرات والصلوات على روحه الطاهرة، فعلت الكنائس الشيء ذاته، ونعاه كبار رجال الدين المسيحيين في فلسطين وجوارها، وتبنى مسيحيون عربٌ كثر، قضيته، وانضموا إلى صفوف الملايين المطالبين بالثأر لشهادته.

لقد نجح هنية، في استشهاده، في إنجاز ما أخفقت مئات مبادرات التقريب بين المذاهب والأديان ومؤتمراتها طوال أكثر من ثلاثة عقود. الدم الفلسطيني انتصر حيث عجز القلم واللسان عن تحقيق هذه النقلة، ومن المؤكد أن فلسطين البوصلة وحدها تجمع ولا تفرق، وأن من يدير ظهره لها، لن يلقى سوى العزل والنبذ، وإن طال الزمن، حتى إن تدثر بالسلطة والمال والجاه والرعاية الاستعمارية.

قبل الشهادة، كان محور المقاومة، بكل مكوناته وطوائفه، اشتق خطاً يؤشر على فلسطين، وينتهي إليها، فساهم، عن قصد أو من دونه، في إحباط مؤامرات الفتنة والتقسيم والاحتراب الداخلي. وجاءت شهادة هنية، لترتقي بهذا التلاقي إلى حد التوحد والاندماج في بوتقة الكفاح من أجل فلسطين، وعلى دروب مقاومتها.

أما الاجتماعات والمؤتمرات في القاعات المخملية، فلم تكن أكثر من إعادة إنتاج لـ”سوق عكاظ”، وإعلانات نيات حسنة متبادلة، سرعان ما كانت مفاعليها تنتهي بانتهائها. وحدة الدم وعمادة النار وبوصلة فلسطين تجسدت في استشهاد هنية، وبقوافل الشهداء التي تغطي عين الشمس، في غزة وجنوبي لبنان والحديدة.

ستبقى بالطبع بعض الأصوات الناعقة الباحثة عن الخراب والانقسام والتقسيم، وستجد دوماً من يدعمها ويموّلها ويغذيها، عملاً بمقتضيات “السلام الإبراهيمي” ومندرجاته، بيد أن المقاومة وحماس وهنية نجحوا في شق نهر التقارب والتقريب الجارف، وهيهات ان يقوى أصحاب الضمائر السوداء الميتة على استحداث انعطافة في مجرى التاريخ.

يقولون إن دماء هنية لن تذهب سدى، وأقول إن دماءه لم تذهب سدى، والحساب ما زال مفتوحاً، وقد يبدأ أول غيثه بالانهمار حمماً وشواظ من نار، قبل أن تجد هذه المقالة طريقها إلى النشر، وإن غداً لناظره قريب.

 

 

 

الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن سياسةالموقع
وإنما تعبّر عن رأي كاتبها

مقالات ذات صلة