باختصار.. نتنياهو سَبَقَ مُسيلمة!
بات نتنياهو يملك القدرة على ارتجال الكذب في كل موقف دونما عناء، مستخفاً بالجمهور الذي أرعاه سمعه وإرادته، وقام من مقاعده وصفق وهلل مراراً وتكراراً من دون وعي، وكأنه، أي جمهور هذا المسرح، يبدي كذلك استعداداً نفسياً وسلوكياً للكذب والتزلُّف.
محمد هلسة
كاتب صحفي
اهتم الفكر الفلسفي بمفهوم الكذب منذ بداياته الأولى، فالبحث عن الحقيقة والسعي إليها لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق تعرية أضدادها، المتمثلة في الوهم والزيف والأسطورة والخيال.
يُصنّفُ الكذب بأنه مفهوم زلق متقلّب من الصعب الإمساك به وتصنيفه وتخليص الحقيقة منه، فهو نقيض الحقيقة الذي له ألف وجه ووجه، والكاذب يعرف حقيقة ما يعتزم قوله، ويعرف كذلك ما يفكر فيه وما يقوله ولمن سيقوله والنتائج المترتبة على ما سيقوله، وبالتالي، وهو الأهم، خلق الحدث والدفع إلى الاعتقاد به وتصديقه.
انطلاقاً من هذا التحديد، يمكننا أن نتناول بالتحليل الفلسفي العرض المسرحي الاستعراضي الذي قدّمه نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي يوم أمس. يعلم نتنياهو أنّ الكذب ليس مرتبطاً بالسياسة فحسب، بل هو بالنسبة إليه وسيلة للحكم والبقاء، فالديماغوجية التي يمتهنها تتيح له التلاعب بالوقائع كيفما شاء، حتى في مجتمع يدّعي أنه ليبرالي ديمقراطي حر وأمام نخبه وممثليه، يتلاعب نتنياهو بآرائهم، ويقلب الأحداث والحقائق والوقائع التي باتت معروفة بديهية بما يخدم سرديته ومصالحه، ثم يحظى بالتصفيق!
ونتنياهو عرّاب الكذب يعلم كذلك، وهو يستدعي العزم المقصود على إلحاق الأذى بأكثر من طرف، أنه غير مُطالب بأن يطابق ما يقوله الواقع، بل أن يحل محله، مستثمراً الفرصة المواتية التي أتيحت له من منبر الكونغرس الأميركي، متجاهلاً العواقب المحتملة لكذبه، فلم يكن كذبه المفضوح أمس ادعاءً مناقضاً للحقيقة فقط، كما أنه لا يمكن اعتباره جهلاً، ولا يمكن كذلك إلحاقه بالكذب على الذات، فهو ينتمي إلى صنف آخر، بحيث لا يمكن اختزاله في مختلف المقولات التي ورثناها من أفلاطون إلى أوغسطين وروسو وغيرهم، فالكذب الذي يمارسه نتنياهو لم يسبق له مثيل، فهل هو كذب مَرضيّ، أي أنّه نزعة مستمرة وقهرية لقول الأكاذيب وسلوك الكذب المفرط، أم أنه آلية للتكيف طوّرها الرجل ارتباطاً بالنزعة النرجسية التي تحكم شخصيته، بحيث لا يعود يقلق بشأن العواقب المحتمَلة لكشف كذبه، ولا يعود بإمكانه التحكُّم في الرغبة في الكذب، ما يجعل الكذب لديه سلوكاً مستمراً مدى الحياة!
الواضح أن أكاذيب نتنياهو تتطور وتتحوّل بشكل تدريجي لتصبح أكثر حبكة ودرامية، وخصوصاً إذا كانت ضرورية للتستر على واقع فاضح بيّن أو لتبريره، فقد عَمد إلى إظهار نفسه بصورة “الضحية” أو “البطل”، كما في القصص الخيالية، وبدا كراوي قصص ممتاز لديه قدرةٌ على أسر أولئك الذين صفقوا له بحرارة مرات ومرات، من خلال سرد قصص محبوكة ومُتقَنة ورائعة، من دون اعتبار لما يمكن أن يحدث نتيجة لأكاذيبه. أرأيتم كيف تحدّث بثقة عن أخلاقيات جيشه، وأن القائد الذي سأله حين زار رفح يعرف بالضبط أنهم قتلوا 1203 من “المخربين” في رفح، لكنهم لم يقتلوا مدنياً واحداً!
يبدو أن نتنياهو يبشر بولادة “مسرح الكذب”؛ مسرح جديد يضاف إلى المدارس المسرحية التي نعرفها وتعلمنا عنها؛ المسرح التراجيدي، والكوميدي، الفانتازي (الخيال)… وغيرها. ولأن نوع المسرح مُوكَلٌ بغرضه الذي أُنشئ لأجله، فإن الممثل “نتيناهو” يؤدي دور الجلاد والضحية في آن واحد، من دون سيناريو مُقنع أو حتى شواهد تُمَنطق الكذب، حتى تظن أنه يُصدِّق بلا وعي كَذِبه، ذلك أن الكذب بلغ منه مَبْلغاً يُتَرْجم على جوارحه دونما إرادة منه.
لقد بات يملك القدرة على ارتجال الكذب في كل موقف دونما عناء، مستخفاً بالجمهور الذي أرعاه سمعه وبصره وفؤاده وإرادته، وقام من مقاعده وصفق وهلل مراراً وتكراراً من دون وعي، وكأنه، أي جمهور هذا المسرح، يبدي كذلك استعداداً نفسياً وسلوكياً للكذب والتزلُّف، حتى في المُتفق عليه البيّن من الحقائق.
لا شكَّ في أن نتنياهو كان بحاجة ماسة إلى ترك انطباع يبهر مشاهدي التلفزيون الإسرائيلي والأميركي، فخطابٌ يستغرق أكثر من ساعة في جلسة عامة للكونغرس مع تصفيق حار لنتنياهو هو بالضبط الصورة التي سعى إليها ويعول عليها لتشديد مواقفه الرافضة للصفقة والداعية إلى استمرار الحرب، ولرفع رصيده الانتخابي وتحويله من مُدان فاشل إلى بطل قومي وصقر استطاع أن يوظف كل تناقضات مشهدية الحرب، بما فيها العلاقة مع الحليف الاستراتيجي، لمصلحته ومصلحة “إسرائيل”، فنتنياهو يريد المحافظة على استقرار “ائتلافه المتطرف” والإفلات من مشكلاته القانونية، وخطابه أمام الكونغرس لم يكن إلا “الخطوة التالية” في سلسلة طويلة من جهود التلاعب بالساحة الأميركية بسوء نية، لزيادة تسييس العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية.
خلاصة مشهدية الأمس في الكونغرس الأميركي أنّ كذب نتنياهو وغروره وغطرسته ليست مفاجِئة لمن يعرف الرجل جيداً من قبل، فهو كاذب وانتهازي ومرواغ بامتياز، لكن الذي أكده التصفيق الحار والحميمية التي حظي بها في خطابه الاستعراضي الأرعن أن غرور نتنياهو وغطرسته، ومِن خَلفِه جيشه وشعبه، لم يكن ليدوم ويستفحل لولا هذا الدعم الأميركي الأعمى اللامتناهي، وأن بداية التأثير في هذا الرابط وفكفكته ستشكل مقدمة لبداية النهاية لأكاذيب نتنياهو وكيانه الغاصب.
إن الاراء الوردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن سياسية الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً