متابعات ..التّطبيع مع إسرائيل.. ماذا ربحت الإمارات؟
بقلم – نورالدين إسكندر
فعلتها الإمارات وطبّعت علاقاتها مع “إسرائيل”، لكنَّ فعلتها هذه لا تبدو مفيدةً على المستوى الاستراتيجي، فهي اشترت صداقة عدوها، وباعت إخوانها وأصدقاءها، الأمر الذي لا يشبه مبدأ التخطيط الاستراتيجي بشيء، بالنظر إلى الأسباب والمكاسب والمخاطر.
لا تنتهي الأحداث الكبيرة في الشرق الأوسط، وكأن المنطقة ولدت لتشهد الأحداث الكبرى، والحروب الكبرى، والمؤامرات الكبرى. اليوم، تشهد المنطقة حروباً، وحشوداً عسكرية، وصراعات متنقلة من دولة إلى أخرى، وحروباً أخرى تستتر خلف ستار دخان الحروب العسكرية، وصراعات على مصادر الطاقة، وصراعات ممتدة في عمق العقائد والروايات التاريخية. مشهد جديد استراتيجي يرسم الآن للمنطقة، ومن أجله تشتعل الحرائق، وتحتشد السفن الحربية، وتجرى المناورات، وتوقّع الاتفاقيات، وتحدث الخيانات.
وفي خضمّ هذه الأجواء التي يراد لها أن تؤسّس لمسارات جديدة في المنطقة، فاجأت الإمارات العربية المتحدة المراقبين بموافقتها على تطبيع علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي. الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن في 13 آب/أغسطس عن اتفاق لتطبيع العلاقات بين أبو ظبي وتل أبيب، والارتقاء بها إلى مستوى تبادل السفراء والتعاون والتنسيق في مجالات جمة، أبرزها المجالان السياسي والعسكري.
لم يكن الحدث يتيماً ومنفصلاً عن سياق تطور العلاقات الخليجية الإسرائيلية، فخيوط التعاون بين دول خليجية أخرى و”دولة” الاحتلال تمدّ منذ فترة طويلة. والآن، ما كان في السر، يظهر إلى العلن. وفي السنوات الماضية، دلَّت أحداث ومحطات عديدة على قرب التوصل إلى اتفاقية تطبيع علنية بين الإمارات و”إسرائيل”، كما بين “إسرائيل” ودول خليجية أخرى تبدو أنها على طريق التطبيع مع العدو.
مسار العلاقات الإماراتية الإسرائيلية
لقد توّجت الخطوة المستجدة مساراً متصاعداً شهدته السنوات الأخيرة من التلاقي بين الجانبين. وقد استخدم الضخ الإعلامي الهائل لسنوات ضد إيران كغطاءٍ دخاني للتعمية على وعي الجماهير العربية، وخصوصاً الجماهير الخليجية، من أجل تحويل الوعي الجماعي نحو عداوةٍ مستجدة مع إيران، في مقابل إنتاج إعلامي مستمر وضخم يبسط ويتفّه كل ما يرتبط بالعداء لـ”إسرائيل” وبجدوى المقاومة، بل بكل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية. ومورست في سياق ذلك ممارسات منظمة لشيطنة كل جهد ممانع أو مقاوم في المنطقة.
لقد خاضت وسائل الإعلام العربية ووسائل الإعلام الوافدة من المحطات العالمية الناطقة بالعربية، ولا زالت، حملاتٍ مخططة ومبرمجة لتحويل الوعي وتغيير اتجاه العداء عند الرأي العام العربي، وتحويله من “إسرائيل” باتجاه إيران، على الرغم من احتلال “إسرائيل” للأراضي العربية ولفلسطين، ولمقدسات المسلمين والمسيحيين العرب، ووقوف إيران في المقلب الآخر كداعمٍ أول للعرب وقضاياهم في مواجهتها.
في العام 2018، زارت وزيرة الثقافة والسياحة الإسرائيلية، ميري ريغيف، رياضيين إسرائيليين شاركوا في بطولة لرياضة الجودو نظمها الاتحاد الدولي للعبة في مدينة أبو ظبي، ورفع الوفد الإسرائيلي علم الاحتلال خلال مشاركتهم في البطولة.
وفي العام نفسه، ألقى وزير الاتصالات الإسرائيلي السابق أيوب كرا في مدينة دبي كلمة في مؤتمر “المندوبين المفوضين للاتحاد الدولي للاتصالات”، الذي أقيم تحت رعاية محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي ورئيس الحكومة الإماراتية في شهر أكتوبر/تشرين الأول.
وفي آب/أغسطس من 2019، نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية خبراً خاصاً كشفت فيه عن صفقة بقيمة 3 مليارات دولار أبرمت بين الإمارات و”إسرائيل”، للحصول على خدمات أمنية واستخباراتية وتجسسية من الأخيرة.
وبعد شهرين فقط من ذلك الخبر، نشرت الصحيفة نفسها خبراً يكشف عن عرض شركة أمنية إماراتية على ضباط سابقين في الاستخبارات الإسرائيلية العمل لديها برواتب ضخمة تصل إلى مليون دولار سنوياً.
وقبل نهاية العام المنصرم، كانت وزارة الخارجية الإسرائيلية تعلن في ديسمبر/كانون الأول عن تلقي “إسرائيل” تهنئة رسمية من الإمارات بمناسبة عيد حانوكا اليهودي، وتكشف عن إشعال أبناء الجالية اليهودية في إمارة دبي الشمعة الثامنة والأخيرة لهذا العيد.
ولم تكتفِ الوزارة بذلك، بل أكّدت في الشهر نفسه زيارة سرية قام بها وفد رسمي إسرائيلي، برئاسة المدير العام للوزارة يوفال روتم، التقى فيها مسؤولين إماراتيين كباراً في دبي، ووقع اتفاقاً رسمياً بشأن مشاركة “إسرائيل” في معرض “إكسبو 2020” الذي تستضيفه الإمارات.
خلال العام الحالي، تحدثت معلومات صحافية لموقع “أكسيوس” الأميركي عن أن لقاء تم بين مسؤولين من “إسرائيل” والإمارات في الولايات المتحدة، وتحدثت المعلومات عن نية الطرفين توقيع اتفاقية عدم اعتداء بينهما، تمهيداً لتطبيع العلاقات بينهما.
في الوقت نفسه تقريباً، كانت صناديق السيادة الإماراتية ورجال أعمال إماراتيون يطلقون مبادرات لدعوة “إسرائيل” إلى الاستثمار في الخليج، ثم أتت في شباط/فبراير من العام الحالي أيضاً مشاركة فريق إسرائيلي في طواف دبي للدراجات الهوائية بقمصان تحمل ألوان علم “الدولة” العبرية، والتي حظيت باستقبال مسؤولين إماراتيين.
أكثر من ذلك، افتتح أول مطعم إسرائيلي في الإمارات في شهر حزيران/يونيو المنصرم، في ما أطلقت الجالية اليهودية في الإمارات أول حساب رسمي على “تويتر” في أيار/مايو، وقد ضم ما يقارب 3 آلاف يهودي من دول مختلفة يقيمون في الإمارات.
في الشهر نفسه، كتب السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، مقالاً في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، وصف فيه علاقات حكومة أبو ظبي مع “إسرائيل” بالحميمة، وأشار إلى أن “إسرائيل” والإمارات، من خلال علاقاتهما العميقة والطويلة مع الولايات المتحدة، بإمكانهما خلق تعاون أمني مشترك وأكثر فعالية. وفي الوقت نفسه، قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، إن دعوة “إسرائيل” إلى معرض “إكسبو 2020” في الإمارات هو أمر طبيعي ومنطقي، ولا يمكن استثناء أي دولة من المشاركة.
بعد ذلك حطت طائرة إماراتية تحمل مساعدات للفلسطينيين في حزيران/يونيو في مطار بن غوريون الإسرائيلي في رحلة مباشرة من أبو ظبي إلى “إسرائيل”، علماً أن الحكومة الفلسطينية والشعب رفضوا تلك المساعدات لعدم التنسيق المسبق معها، واعتبرتها فصائل فلسطينية تطبيعاً مرفوضاً، وأعلنت أبو ظبي رسمياً في نهاية الشهر نفسه إطلاق مشروعات مشتركة مع “إسرائيل” في المجال الطبي ومكافحة كورونا. كما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن أن أبو ظبي زودت “إسرائيل” بما يقارب 100 ألف جهاز فحص للفيروس.
أما في الشهر المنصرم، فقد كشفت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن شركة إسرائيلية أرسلت أحد ابتكاراتها في مجال مكافحة فيروس كورونا إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي، فيما وقَّعت شركتان إسرائيليتان اتفاقيّة مع عدد من الشركات الإماراتية، لتطوير حلول تكنولوجية للتعامل مع فيروس كورونا المستجد.
أسباب الخطوة الإماراتية
يتساءل الجميع اليوم عن معنى الخطوة الإماراتية. الكل يريد أن يعرف كيف حدث هذا التحول، وما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك.
يمكن التفكير في الكثير من الإجابات على هذه التساؤلات، لكن واحداً من أهم الأسباب يبقى خوف القيادة الإماراتية من وصول موجة التغيرات التي تضرب المنطقة إليها.
في السنوات الماضية، وحين كانت كل دول الخليج تقريباً منخرطة بقوة في الحرب على سوريا، خرج رئيس استخبارات دبي، ضاحي خلفان، ليهاجم الإخوان المسلمين بأسوأ العبارات. لقد لمست الإمارات خطر الإخوان قبل غيرها، لكن خطر الإخوان على من؟ على نظام الحكم فيها، وليس على أي شيء آخر!
لذلك، إن التمدد التركي الإخواني في المنطقة يشكل سبباً رئيساً يشجع على التطبيع مع “إسرائيل” من وجهة نظر القيادة الإماراتية، وخصوصاً أن تركيا تبدو اليوم أكثر تحفزاً للتمدد، فهي تنشط في سوريا والعراق وليبيا. ومؤخراً، يكثر الحديث عن اهتمامها المتزايد بلبنان.
كما أنَّ التطبيع بالنسبة إلى الإمارات و”إسرائيل” هو تطوّر طبيعيّ للأمور، بحسب المسار الذي ذكرناه في المقطع السابق، وهو يشكل هدية انتخابية ثمينة لترامب، وحبل خلاص يمكن أن تقدمه الإمارات لنتنياهو الذي يعاني من صعوبات في الحكم واتهامات بالفساد تهدد حكمه.
وتحاول الإمارات تقديم نفسها على أنَّها واحة في منتصف بحر من الرمال، ودرة التطوّر، وحاضنة المدن العالمية، والدولة المزدانة بناطحات السحاب، والمليئة بالشركات العالمية التي اتخذت من مدنها مراكز عملٍ إقليمية ودولية. هذه الصورة التي ترسمها الإمارات لنفسها لا تنسجم وفق رؤية حكامها مع العداء للاحتلال، والبقاء على مواقف الدعم للقضايا العقائدية والدينية والقومية حتى، وخصوصاً بعد الفشل الذي حصدته من مشاركتها في الحرب على اليمن.
كما أنَّ أبو ظبي تراهن من خلال هذه الاتفاقية على الحصول على أسلحة وعلى مكاسب أمنية من الأميركيين والإسرائيليين، مع مخاطرة أكبر باستعداء إيران التي صرّحت بأن علاقاتها مع الإمارات سوف تتأثر سلباً بالتأكيد، بسبب تطبيع الأخيرة مع الاحتلال الذي رأى فيه الرئيس الإيراني حسن روحاني خطأ استراتيجياً. إذاً، هو استبدال عدو بعيد بعداوة دولة أكبر على الحدود.
من التالي؟
وبالنظر إلى المسار الذي اتخذته الإمارات قبل الإعلان عن التطبيع مع العدو، ثم بالنظر إلى السياق الاستراتيجي في المنطقة، فإن التحليلات حول هوية الدولة تتجه بأغلب استنتاجاتها نحو احتمال أن تكون البحرين على رأس القائمة، وخصوصاً بعد ترحيبها بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.
لقد كتب الصحافي الإسرائيلي دانييال سيروتي في صحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية أنَّ ترحيب المنامة بالقرار، وتصريحات جاريد كوشنر (بأن هناك دولة عربية ثانية ستطبع قريباً مع “إسرائيل”)، يشيران بشكل كبير إلى أن البحرين قد تكون الدولة العربية القادمة في توقيع اتفاق سلام مع “إسرائيل”.
في شباط/فبراير من العام الحالي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه التقى عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، في أوغندا، من أجل النظر في إمكانية تطبيع العلاقات بين السودان و”إسرائيل”. وقال مسؤول سوداني لاحقاً إنَّ الإمارات نسّقت اللقاء بين البرهان ونتنياهو، لكن ليس من السهل أبداً أن تكون السودان هي الدولة التالية، وذلك لاعتبارات عديدة مرتبطة بالانفصال بين خطوة البرهان والمزاج الشعبي السوداني.
من ناحية ثانية، وفي تشرين الأول/أكتوبر 2018، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سلطنة عمان، واستقبل استقبالاً رسمياً من قبل السلطان الراحل قابوس بن سعيد. لقد كانت هذه الزيارة والأجواء التي رافقتها مؤشراً كبيراً على خروج العلاقات الخليجية الإسرائيلية من تحت الطاولة إلى فوقها.
وربما تكون السلطنة مرشّحة بارزة لتكون الدولة التالية على لائحة التطبيع، فيما تذكر صحيفة “نيويورك تايمز” من خلال خبرائها، من بينهم إيزابيل كيرشنير وبيتير باركر، أنَّ استضافة سلطان عُمان قابوس بن سعيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في العام 2018، يجعل منها الدولة الثانية بعد شقيقتها البحرين.
من جهتها، أعلنت الكويت أنها لن تكون سوى آخر المطبّعين، لكن يستبعد أن تكون السعودية هي الدولة التالية، ليس لعدم وجود علاقات مع الكيان، فهناك وقائع كثيرة تدحض مثل هذا الافتراض، إنما لكونها تختزن رمزية دينية إسلامية كبيرة تحتاج إلى المزيد من الوقت لتتجرّأ على إظهار علاقاتها مع “إسرائيل”.
في جميع الأحوال، إن خطوة الإمارات لا تبدو من ناحية الأمن القومي بالغة الذكاء، فقد اخترعت لنفسها عداءً مع غالبية الشعوب العربية من ناحية، ومع إيران المتاخمة لها من ناحية ثانية، في وقت لم يكن مطلوباً منها أن ترسل جيوشاً جرارة لتحرير فلسطين، أي أنها لم تتخلَّ عن أعباء في مقابل المخاطر التي جلبتها لنفسها الآن، فما الذي يشجّع الآخرين على اللحاق بها؟