عن “صفقة القرن 2″ والمبادرة العربية و”الهندسة العكسيّة” الأوروبية
لقد حرّك طوفان الأقصى الركود في القضية الفلسطينية، ووفّر فرصة تاريخية لاستعادة زمام المبادرة، واستحداث الانقلاب الاستراتيجي في مفاهيم الصراع العربي – الإسرائيلي ومعادلاته… لكنه بالنسبة لكثرة من العرب الرسميين، كان تحدياً وتهديدا
لم يعد القاموس السياسي العربي، يحتمل مفردات كتلك التي استُخدمت عند صياغة مبادرة السلام العربية في العام 2002، فأخذوا على نحو تدريجي ومنظّم، استبدالها بمفردات جديدة، تستبطن مزيداً من “التراجعات” أمام الغطرسة والتعنّت الإسرائيليّين، وتتساوق مع حصاد المسار الإبراهيمي وفلسفته وحساباته، وتتناغم مع التحوّلات الطارئة على المقاربتين الأوروبية والأميركية حيال المسألة الفلسطينية.
بصرف النظر عن الموقف من المبادرة العربية للسلام، والتي يرى كثيرون – ومن ضمنهم كاتب هذه السطور – أنها شكّلت خطوة إلى الوراء في الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، وانحكمت في توقيتها وصياغتها، بتداعيات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وحاجة من أطلقها لتبييض صفحته أمام واشنطن بعد أن اتجهت أصابع الاتهام إليه بتحميله المسؤولية عنها، بالنظر إلى هوية منفّذيها، وللعقيدة الدينية المتشدّدة التي حرّضت عليها وأفضت إليها…
نقول بصرف النظر عن الموقف من تلك المبادرة، وما اعتراها من نقائص وثقوب، إنّ المعادلة التي نهضت على أساسها كانت في منتهى البساطة والوضوح: أنهوا الاحتلال للأرض الفلسطينية والعربية كاملاً، لتأخذوا بعد ذلك تطبيعاً شاملاً، ليس من قبل طرف عربي واحد، أو عدة أطراف، بل من 22 دولة عربية، ومن بعدها من قبل 57 دولة إسلامية، بعد أن مهرتها منظّمة التعاون بخاتمها.
اليوم تغيّرت اللغة، وتغيّرت معها مواقف وأولويات دول عربية وازنة… إذ بدأت الرسميات العربية تتحدّث عن “تطبيع مقابل مسار”، يقال في وصفه حيناً بأنه ذو مغزى، ويقال في أحايين أخرى، بأنه “لا رجعة فيه أو عنه”، يفضي إلى دولة فلسطينية على حدود 67، وفي الاجتماع الأخير لوزراء خارجية الخماسية العربية، جرى الحديث عن معادلة جديدة قوامها: “التطبيع مقابل الاعتراف”، أي تطبيع عربي شامل، مقابل اعتراف إسرائيلي بدولة فلسطينية.
صحيح أن الخطاب العربي ما زال يتحدّث عن خط الرابع من حزيران كحدود للدولة العتيدة، وعن القدس الشرقية عاصمةً لها… لكنّ الصحيح أننا نعرف، ويعرفون، أن موقفاً كهذا، قابل للانتكاس والتراجع، فذلكم الدرس الأبرز والأهم، لمسارات التراجع العربي… والصحيح كذلك، أن أحداً في واشنطن و”تل أبيب”، لم يلتفت لما هو أبعد من حدود “المسار” و”الأفق” و”الاعتراف”، على اعتبار أن خط النهاية لأي مسار أو أفق سياسيّين، سيظلّ متحرّكاً وفق ما تمليه توازنات القوى من جهة، ومسارات التفاوض العبثي من جهة ثانية.
واللافت أن قضية ستة ملايين لاجئ فلسطيني، التي كانت “أقحمت” على نص المبادرة العربية، بجهد لبناني خاص في قمة 2002، وبصياغة تُبقي حقهم في العودة والتعويض، رهناً للفيتو الإسرائيلي، قد “سقطت” سهواً من الخطاب الرسمي في طبعته الأخيرة، فلا حديث يتردّد على لسان المسؤول العربي عن هذه القضية في أزمنتنا الراهنة، كما سقطت من منطوق الخطاب العربي، عبارة الأراضي العربية المحتلة، لكأنّ الجولان ومزارع شبعا وأخواتها، لم تعد مدرجة على جدول أعمال الأمّة.
7 أكتوبر…الفرصة والتحدّي
لقد حرّك طوفان الأقصى الركود في القضية الفلسطينية، ووفّر فرصة تاريخية لاستعادة زمام المبادرة، واستحداث الانقلاب الاستراتيجي في مفاهيم الصراع العربي – الإسرائيلي ومعادلاته… لكنه بالنسبة لكثرة من العرب الرسميين، كان تحدياً وتهديداً، فكيف جاء شكل تعاملهم مع تداعيات الزلزال الذي ضرب “إسرائيل” والإقليم وامتدت ارتداداته إلى الساحة الدولية كذلك؟
المنطق يقول، إن زلزال أكتوبر، كان يملي على النظام العربي، أن يرتفع بسقوف مطالبه وحدودها الدنيا، فـ “إسرائيل” التي تهشّمت صورتها الردعية، وبدت على حقيقتها المرّة، ككيان تابع، غير قادر على القتال أسبوعاً واحداً، من دون جسر جوي أميركي ومليارات الدولارات السهلة… ليست في وضع من يملي الشروط ويفرض الإملاءات… ولو أن النظام العربي، لم يكن الثغرة الأبرز في معركة الفلسطينيين من أجل الحرية والاستقلال، لأمكن اختصار أمد هذه الحرب من جهة، وتقليص كلفها الإنسانية، وتعظيم ثمارها من جهة أخرى.
لكن بدلاً من ذلك، سارع الذين رأوا في “الطوفان”، تحدّياً لا فرصة، إلى إبداء الاستعداد للهبوط بسقف المطالبات العربية، والتراجع بخطوات واسعة عن مبادرتهم البيروتية، لكأنّ الهدف من قبل ومن بعد هو تطويق فرص انتصار جاءت به حركة “تغرّد من خارج السرب”، ويعدّها كثيرون تهديداً لهم، بل وبعضهم يدرجها كخطر متقدّم على التهديد الإسرائيلي، وهم الذين ما انفكوا يرون في المقاومة و”الإسلام السياسي” عامل تهديد، وينظرون إلى “إسرائيل” بوصفها حليفاً أو مشروع حليف.
ولم يتسنَ للذين أحرجهم صمود المقاومة الفلسطينية وثبات شعبها الوقت الكافي للانشغال بتوضيح ما الذي يقصدونه بـ “أفق ذي مغزى” و”مسار لا رجعة فيه”… لم يسألوا أنفسهم عمّا إذا كان في “إسرائيل” التي يتطلّعون للتطبيع معها، شريكاً موثّقاً في مشروع “حل الدولتين”، وما إن كان في واشنطن، “مربط خيلهم”، إدارة ديمقراطية أو جمهورية، راغبة وقادرة ومستعدة، لممارسة ما يكفي من الضغوط على ربيبتها المدللة، للجنوح إلى خيار “الدولة الفلسطينية”… بل ولم يسألوا وهو في غمرة الاستعجال للتخلّص من حرج “الدم الفلسطيني”، ما هي الدولة التي يتحدّث عنها الأوروبيون، ويبحث الأميركيون جاهدين، عن صيغة لها، لا تجعل منها دولة وتجرّدها من السيادة، وربما تكون أقرب إلى نموذج “دولة واحدة بنظامين”، مع الاحترام للموقف الصيني من قضية هونغ كونغ وتايوان وغيرهما، الذي يبدو مغايراً في سياقه ومضامينه ومراميه.
بل إنّ أحداً في حمأة الاهتمام بتسويق الموقف العربي المستجد، في واشنطن، لم يتجاسر على سؤال الأخيرة، وماذا عن مستقبل القدس الشرقية، التي اعترفتم بها جزءاً من “العاصمة الأبدية الموحّدة” لدولة العنصرية والإبادة والتطهير العرقي… يبدو أنّ هذه القضايا جميعها، ستندرج في عداد التفاصيل، طالما أن المعادلة الحاكمة للعلاقات العربية – الإسرائيلية قد أصبحت “التطبيع مقابل الاعتراف”، وطالما أن خطوط التشديد الموضوعة تحت عبارات “خطوط الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية” ليست سوى “سطور كتبت بماء”.
مطاردة الساحرات
قد يتساءل البعض، وما السبب في انعدام الثقة بما يرد في بيانات النظام العربي ومراسلاته مع واشنطن وعواصم الغرب والشرق، ولماذا لا نصدّق أن العرب الرسميين يعنون ما يقولونه، ونجيب بإيراد ملاحظات ثلاث:
الأولى؛ أنّ هناك من يروّج أنّ “صفقة القرن 2″ التي كانت على وشك أن تبرم بين واشنطن والرياض و”تل أبيب” عشية السابع من أكتوبر، كانت تستبطن حلاً للقضية الفلسطينيين، وتأميناً لحقوق شعب في الدولة والعاصمة… حتى أن البعض من الأخوة الكتّاب والمحلّلين السعوديين والعرب، باتوا يحملون على حماس، لأنها بدّدت “فرصة تاريخية” حين “قامرت” بإشعال فتيل الطوفان.
والحقيقة أنّ سقف المطالب التي وعِدت بها الرياض، لم تكن تتخطّى معادلة “الأمن مقابل الاقتصاد” التي لطالما عملت عليها “إسرائيل”، حكومة ومعارضة… وإن كان ثمة من فضّل رفع سقف المطالب السعودية نسبياً في أيّ صفقة مقبلة، وإدخال البعد السياسي للمعادلة المذكورة، فإنما يعود للسابع من أكتوبر وما استحدثه زلزال الطوفان من ارتدادات وتداعيات… لكننا مع الأسف، لا نرى حتى الآن، أن السقف الجديد لهذه المطالب، يستوعب الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين وتطلّعاتهم وأشواقهم.
والثانية؛ أنّ “إسرائيل” التي تنجرف بصورة منهجية ومنظّمة، ومنذ ربع قرن على الأقل، صوب التطرّف الديني والقومي، لم تعد تنتج قوى ونخباً سياسية يمكن أن تكون شريكة في حل كهذا… وهي في المقابل، لا ترى أن العرب يتقدّمون نحوها بغير “الحوافز التشجيعية” و”المزيد من الجزر”… فلا “شرطية” في علاقات العرب بها ومعها، ولا تلويح من أي نوع بما في حوزتهم من أوراق قوة و”عصيّ” يمكن اللجوء إليها عند الضرورة… لماذا تخشى “إسرائيل” ردود أفعال العرب، وهي المعروفة والمضمونة سلفاً…؟ ولماذا تدفع أثماناً مرتفعة اليوم، إن كان بمقدورها الحصول على البضاعة ذاتها، بسعر أقل، غداً أو بعد غدٍ، وإن لم يكن بالجملة فبالتقسيط؟
والثالثة؛ أن للعرب في نظرتهم لواشنطن، مذاهب ومشارب، فمن مؤيّد لعودة الجمهوريين بصيغتهم “الترامبية” إلى محبّذ لبقاء الديمقراطيين لولاية جديدة – ولايات جديدة – لكنهم برغم افتراقهم حول هذه النقطة، لا يظهرون أي ميل من أي نوع، لمقارعة واشنطن والضغط عليها، سيما حين يتعلق الأمر بفلسطين قضية وشعباً وحقوقاً… هم قد يقدمون على مناكفة واشنطن بل والتمرّد عليها، إن اتصل الأمر ببقاء الأنظمة واستمرارها وتتالي حلقات الوراثة والخلافة، بيد أنهم لا يفكّرون قطعاً بوضع ما يمتلكون من أوزان وأثقال خلف الفلسطينيين في كفاحهم الأكثر عدالة من أجل الحرية والعودة وتقرير المصير.
لكلّ هذه الأسباب، نتطلّع إلى الحراك والمواقف العربية الرسمية بوصفها ضرباً من “مطاردة الساحرات”، وسعياً للإمساك بـ “سراب الأوهام” و”خيوط الدخان”… ونجدنا ننظر إلى التبدّل الأخير في هذا الخطاب، بوصفه نزولاً بعدة درجات على سلّم التنازلات الطويل، وهبوطاً من “لاءات الخرطوم الثلاث”، إلى اقتباس الفرزدق مع فارق التشبيه: “لولا التشهّد لكانت لاؤه نعم”.
هندسة عكسيّة
الحراك العربي ليس منبّتاً عمّا يدور في أورقة واشنطن وبروكسيل، ثمة تنسيق وثمة تناغم… الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها، طلبت إلى خبراء الوزراء، البحث في أرشيفها، عن صيغة “دولة” منزوعة السلاح والسيادة، ومقلّصة إلى حد كبير، لكي تعترف بها دولة للفلسطينيين، فتكون بذلك قد أخلصت لرؤية بايدن حول “حلّ الدولتين”…
وإلى أن ينتهي البحث عن صيغة مقزّمة للدولة العتيدة، سيتعيّن على “إسرائيل” العمل على تصفية حركة حماس، وسيتعيّن على العرب الاستعداد لتقديم جوائز الترضية الكبرى لـ “إسرائيل”، أما الانتقال من الاعتراف بالدولة إلى تجسيدها، فتلك مهمة ستخضع لشرط وجود الشريك الإسرائيلي مثلما ستكون مثقلة باعتبارات الحملة الانتخابية لبايدن ونتائجها.
بروكسيل، حيث تستشعر بعض دول الاتحاد الأوروبي، ضيقاً من جرّاء الصور التي تبثّ من غزة لجرائم الحرب التي دعمتها وصمتت عليها، ثمة ميل لمقاربة أوروبية جديدة، قد تتخطّى الاعتراف بدولة فلسطينية إلى السعي لتجسيدها كما يقول الموفد الأوروبي سفن كوبمانس…. في هذا السياق يجري استخدام تعبير “الهندسة العكسية” في الخطاب الأوروبي، دلالة على المقاربة الأوروبية الجديدة، فالقارة العجوز باتت تدرك عقم مسار “المراحل” و”خرائط الطرق” طويلة الآجال، وهي باتت تفكّر بمقاربة تقوم على الاعتراف بالدولة الفلسطينية والسعي لتجسيدها من ضمن إطار زمني ضيق نسبياً، يراوح ما بين عام وعام ونصف العام.
لكنّ أوروبا تدرك تمام الإدراك أنّ ثمّة نصف دزينة من دولها الأعضاء، ما زالت تعارض هذه المقاربة، على محدوديتها، وهو ما سيكبّل أيادي الاتحاد الأوروبي ويمنعه من اتخاذ موقف موحّد….
كما أن أوروبا والناطقين باسمها، يصمتون عن الكلام المباح حين تسألهم عن معضلة غياب “الشريك الإسرائيلي” ومدى استعداد الإدارة في واشنطن لاستثمار مزيد من الضغوط في هذا الاتجاه… وإذ يبدي الأوروبيون، معظمهم وليس جميعهم، مرونة أعلى في التعامل مع صيغ للنظام الفلسطيني تستبطن مشاركة حماس بصورة من الصور، إلا أن الفيتو المزدوج الإسرائيلي الأميركي، ربما يكون بالمرصاد لأي تفكير أوروبي مستجد على هذا الصعيد، يحاكي بعضاً من تجارب أوروبا والعالم: الجيش الجمهوري الإيرلندي والشين فين، الـ “PKK” وحزب الشعوب الديمقراطية في تركيا وغيرهما.
بهذا المعنى، قد تبدو المواقف والصيغ التي يحفل بها القاموس العربي الجديد، مستمدّة ومستوحاة من التحوّلات التي تطرأ على المقاربتين الأميركية والأوروبية، تحديداً بعد السابع من أكتوبر، في حين أن المطلوب أن تكون المواقف العربية، قاطرات تجرّ المواقف الأوروبية والأميركية لتلامس ضفاف المشروع الوطني الفلسطيني، وتقترب من الحد الأدنى من الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.