الحرب على غزة… عوائد الفرصة وكلفة “الفرص البديلة”
تترسم اليوم قواعد جديدة للعبة الأمم في المنطقة، حرباً وسلماً، ودائماً لمصلحة الأطراف التي انخرطت في معركة النصرة والإسناد لغزة ومقاومتها.
فَتَح “طوفان الأقصى” الباب رحباً أمام سلسلة من الاستدارات والانعطافات على المستويات كافة: فلسطينياً وإسرائيلياً وإقليمياً ودولياً… وانخرط اللاعبون ذوو الصلة، وبأقدار متفاوتة، في لعبة إعادة ترسيم قواعد “لعبة الأمم” التي حكمت الإقليم وتحكمت فيه طوال أكثر من 3 عقود، وكانت نتائجها وبالاً على عدد من دوله، وبالذات على ما كان يعرف وصار يعرف بـ”قضية العرب المركزية الأولى”؛ القضية الفلسطينية.
كان طبيعياً ألا تنظر الأطراف إلى الحدث/الزلزال من العدسة ذاتها، فاختلاف مواقعها ومصالحها أفضى إلى اختلاف في مواقفها ومقارباتها… “إسرائيل” وحلف الداعمين والشركاء في العديد من عواصم الغرب الاستعماري تعاملوا مع الحدث بوصفه تهديداً وتحدياً جدياً، لا لوجود “إسرائيل” ودورها المهيمن كقوة استعمارية “متوسطة ووسيطة” تقوم بأدوارها أصالة عن نفسها ونيابة عن هذا الحلف، بل بوصفه إيذاناً بـ”انقلاب المشهدين” الإقليمي والدولي.
أما دول الإقليم، من عربية وغير عربية، ومن ضمنها السلطة الفلسطينية، فقد سارعت إلى “تقليب” خياراتها وبدائلها بعدما استيقظت من هول الصدمة، وجاءت قراراتها ومواقفها اللاحقة متفاوتة، وأحياناً متناقضة… بعضهم رأى في السابع من أكتوبر فرصة فهبّ لاغتنامها، وكان له، أو سيكون له، ما أراد، وبعضهم الآخر رأى فيها تهديداً، فانخرط في مشاريع احتوائها وتفريغها من مكتسباتها، فجنى الخيبة والانتقاد والاتهام بالعجز والتقصير…كان عبئاً على فلسطين، ولم يكن ذخراً لأهله وبلده.
في علم “الاقتصاد الجزئي”، يشير مصطلح “كلفة الفرصة البديلة” إلى قيمة الخيار الأفضل المتاح الذي تم التخلي عنه لمصلحة الخيار المأخوذ به. وأحسب أن ثمة متسعاً لهذا المفهوم في علم السياسة كذلك… فالذين آثروا الاستنكاف وتوخوا “السلامة” وأجروا حسابات ضيقة، سواء من منطلقات شخصية وفئوية أو لاعتبارات تُقدم مصلحة الحكم ونخبه على حساب مصالح الشعوب والأوطان، الذين فضَّلوا الأخذ بنظرية “سكّن تسلم” في اللغة، فعمدوا إلى تسكين شعوبهم وإسكاتها، واستمرأوا استمرار القديم على قدمه، وتعاطوا بأدوات قديمة وبالية مع واقع “ثوري” جديد، عليهم أن يجروا حسابات “كلفة الفرصة البديلة”، ليتعرفوا إلى قيمة وثمن ما بددوه من خيارات وبدائل كان يمكن لها أن تستحدث فائضاً في قيمتهم وقيم دولهم وكياناتهم.
لنا أن نتخيل لو أن السلطة والمنظمة وحركة فتح لم تتخلَ عن “الفرصة البديلة” التي وفرها الطوفان، وعمدت دون إبطاء إلى إعادة بناء المرجعية الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني، وأدخلت المقاومة في صلب بنيتها المؤسسية، ووفرت لها شبكة الأمان السياسي، وانتقلت من غرف التنسيق الأمني ومقاعد النظّار والمتفرجين إلى خنادق المواجهة مع العدو، حتى وإن كانت بحدودها “السلمية والشعبية”.
لنا أن نتخيل لو أن رام الله خاضت معركة السردية مع الاحتلال، ووضعته على سكة المحاسبة (بدل التفكير المريض بمحاسبة حماس)، وتصدرت الصفوف أمام المحاكم الدولية، وصعّدت وتائر تصديها للاستباحة الإسرائيلية للضفة والقدس والقطاع، لتستحق شكر الشعب الفلسطيني والتفافه بدل الشكر المغمّس بالذل الذي تلقته من بلينكن وبعض رموز المستوى الأمني الإسرائيلي…
لنا أن نتخيل لو أن السلطة ورام الله تصدت لمحاولات شيطنة المقاومة ودعشنتها بصريح العبارة والفم الملآن بدل أن يتسلل بعض المحسوبين عليها في إطلاق مواقف لا تصبّ القمح صافياً إلا في طاحونة العدوان والاحتلال… على السلطة والمنظمة وفتح أن تجري بكل أمانة جردة حساب مع “كلفة الفرصة البديلة/الضائعة”، اليوم وليس غداً.
وتوفرت للقاهرة فرصة تاريخية نادرة، لم تتوفر لها منذ حرب أكتوبر المجيدة، لإعادة بناء دورها القيادي والزعامي في الإقليم، فمصر من دون ريادة وقيادة في الإقليم لا وزن لها، وإن كانت أكبر دولة عربية بسكانها…
كان يمكن للقاهرة أن ترسم خطوطاً حمراً في غزة وحولها، كذاك الذي رسمته بين سرت والجفرة في ليبيا، وأن تكون هي، وليس جنوب أفريقيا (مع كل الاحترام)، من يتولى محاكمة “إسرائيل” أمام المحافل الدولية، وأن تتولى هي أمر تنفيذ قرار القمة العربية الإسلامية الطارئة بكسر الحصار على معبر رفح، وأن تستنهض من حولها مواقف دول عربية وإقليمية وصديقة وازنة، وأن تنقل ملف حماس من كونه ملفاً أمنياً تختص بإدارته مخابراتها إلى اعتباره ملفاً سياسياً – قومياً بامتياز، وأن تقود المجتمع الدولي للاعتراف بحماس والجهاد وفصائل المقاومة، بوصفها حركات تحرر وطني ومقاومة مشروعة ضد احتلال اقتلاعي – استيطاني – عنصري كريه، وأن تعيد التوازن والاتزان إلى علاقاتها مع “إسرائيل”، فتكون لها اليد العليا بعد سنوات من المداهنة والتساوق والمقاربات الناعمة والخجولة مع عدو تكشف عن استعداد لدوس سيادة مصر وكرامتها بأقدامه وتعامل مع سيناء كما لو كانت “وكالة من غير بواب”، وأرض مشاع يقترح تهجير الفلسطينيين إليها وتوطينهم فيها.
وتوفرت للقيادة السعودية الشابة فرصة تاريخية نادرة لقيادة العالمين العربي والإسلامي لخمسين سنة قادمة على الأقل، والرياض تعرف أن فلسطين، وليست “نيوم”، هي بوابتها لتزعم هذين العالمين. كان يمكن للمملكة الشابة والناهضة أن تستكمل تحولاتها الداخلية بانعطافة في سياستها الخارجية من دون التخلي عن طموحات ثورتها البيضاء وأحلامها.
كان يمكن للمملكة أن تشهر “الفيتو” في وجه قادة تل أبيب وواشنطن الذين هرولوا لضمان دور “إسرائيل” المهيمن في الإقليم، والسهر على “هندساتهم” لنظامه الأمني، ولا سيما بعدما رأوا رأي العين أن تل أبيب لم تستطع حماية نفسها من كتائب القسام، فكيف لها أن تحميهم وتحمي نفطهم وأمنهم واستقرارهم من تهديد إيران وحلفائها!
قلنا قبل طوفان الأقصى، ونقول بعده، إن من يريد تزعم العالمين العربي والإسلامي، وأن تعترف شعوب الأمتين العربية والإسلامية بزعامته وأحقيته بقيادتها، عليه أن يوفر الحضانة لفلسطين، قضيةً وشعباً وقضية ومشروعاً ومقاومةً، لا أن يكتفي بمواقف ومقاربات هي أقرب إلى “رفع العتب” منها إلى المبادرة…
ما الذي كانت الرياض ستخسره لو أنها اختارت التعرض الخشن للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، واستقبلت كل أطياف العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني، وتصدت لجرائم الحرب الصهيونية في المحافل الدولية، ورفعت عقيرتها في وجه الشراكة الأميركية في الحرب القذرة على شعب فلسطين؟ هل كان لعلاقاتها مع الغرب أن تتردى أكثر مما تردت زمن جمال خاشقجي وقنصلية إسطنبول على سبيل المثال أو حين قررت استقبال الزعيم الصيني والتزمت بإطار “أوبك بلس”؟
تركيا وإيران قدمتا أداءً مفارقاً في هذه الأزمة… أنقرة نأت بنفسها في أسبوع الحرب الأول قبل أن ترفع سقف انتقاداتها وإدانتها للعدوان الإسرائيلي، لتعود بعدها لإبداء الاستعداد للبحث في غزة ما بعد الحرب، وحتى قبل أن تضع الحرب أوزارها، بحثاً عن دور في الوساطة وفي “رعاية” أي ترتيبات مستقبلية لغزة… لم تتخطَ مواقفها حاجز سحب السفير، وظلت على أوثق العلاقات التجارية والاقتصادية مع “إسرائيل”… صورة تركيا لدى الرأي العام، العربي والفلسطيني، تضعضعت برغم النبرة المرتفعة للخطاب السياسي والإعلامي، حتى لدى حماس وجمهورها، ولم يعد “الطيب رجب” يحظى بالمكانة نفسها التي كان عليها قبل الطوفان، وهو في المقابل لم يكسب احترام الغرب وثقة “إسرائيل”.
في المقابل، اتخذت إيران وحلفاؤها قراراً بالتصعيد المضبوط والمحسوب، وغالباً من ضمن قواعد الاشتباك، ولكن بقدر من “المرونة” في الالتزام بها تصعيداً أو تسكيناً… على أن الجبهات التي ساندت غزة وشاغلت “إسرائيل” ظلت محصورة بالقوى “اللادولاتية” المقربة من إيران والمحسوبة عليها… حزب الله فتح جبهة على اتساعها، واعتمد أسلوب التصعيد المتدرج – المضبوط، المواكب لمجريات الحرب على غزة. أنصار الله قفزوا إلى أعلى منسوب التدخل، وأتبعوا القول بالفعل، وفرضوا حصاراً على إيلات وفقاً لمعادلة “غزة مقابل إيلات”، وفصائل من الحشد الشعبي رفعت منسوب تعرضها الخشن للقواعد الأميركية في العراق وسوريا.
كان بمقدور هذه القوى أن تقف صامتة – ساكنة، ولن يلومها على ذلك أحد، ما دامت دول عربية، كبرى وصغرى، لم تفعل غير تدبيج بيانات الإدانة والمناشدة وبعض من حراك دبلوماسي وشحنات إغاثية عاجلة… لكنها كانت ستفقد “سرديتها” وصدقيتها لو اختارت التسكين، ولن تعود لتجد من يشتري بضاعتها… اتخذت خيار الانتصار لغزة، بالقول والفعل، وها هي تتحضر لقطف ثمار و”بركات” الانتصار لغزة، على حد تعبير أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله.
وثمة ما يشي بأن “تسوية كبرى” يجري الإعداد لها خلف أبواب مغلقة، مؤدّاها تهدئة مستدامة ووقف شامل لإطلاق النار وتنفيذ كامل للقرار 1701 أو أي قرار على شاكلته وطرازه، ولكن بعد أن تضع حرب غزة أوزارها، وعلى قاعدة “تحرير كامل الأراضي اللبناني المحتلة” من شمال الغجر إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وتسوية العالق من النقاط الحدودية الثلاث عشرة… هذا ليس مكسباً لحزب الله والمقاومة فحسب، هذا مكسب للبنان أيضاً، وهذا نتيجة لاتخاذ الخيار الصائب الذي يبدو في ظاهره أكثر كلفة، ولكنه في مضمونة ذو عائد أكبر من خيار الصمت والانكفاء.
والمؤكد أن تحرك الفصائل العراقية الإسلامية على خط التعرض الخشن للوجود العسكري الأميركي في العراق، وما ترتب عليه من ردود أفعال أميركية “طائشة”، سينتهي إلى تحرير العراق من القوات الأميركية والأجنبية. ويبدو أن هذا الملف قد وُضع على “نارٍ حامية”، وسيفتح ذلك الباب رحباً أمام احتمال انسحاب أميركي من شمال شرق سوريا، في خطوة ستصب في مصلحة طهران ومحورها وحلفائها.
الشيء ذاته، بل أكبر منه، ينطبق على اليمن، فأنصار الله الحوثيون، بقرارهم فرض حصار على إيلات، اكتسبوا دعماً شعبياً يمنياً في المقام الأول، وعربياً وإسلامياً في التحصيل النهائي، وهم اليوم، يكادون يختزلون اليمن بكل أطيافه ومكوناته، بعدما تحولوا من قوة محلية وفريق يمني مثير للجدل إلى لاعب إقليمي بامتياز، سيحضر بقوة وعلى المائدة، لا عند الحديث عن أمن البحر الأحمر وحرية الملاحة، بل وعند البحث في مستقبل اليمن بعد حرب السنوات الثماني العجاف عليه… مسيرات اليمنيين المليونية، ومسيرات أنصار الله وصواريخهم، تدفع دولاً إقليمية وعربية إلى التفكير ملياً بموقع أنصار الله ومكانتهم في اليمن الجديد، وهم الذين ما انفكوا يستقبلون، منذ أن خرجوا للحرب إلى جانب غزة، أفواجاً من التائبين والعائدين من القوى اليمنية التي ارتضت الارتهان للخارج.
قلنا بعد الطوفان إنه عامل تغيير Game Changer للمشهد الإقليمي برمته، وليس للمعادلات الفلسطينية والإسرائيلية فحسب… اليوم، يتضح هزال السلام الإبراهيمي وتوابعه وسوابقه. اليوم، تتضح الحدود والقيود المفروضة على دوله. اليوم، تتآكل قدرة عواصم هذا المسار على القيام بدور ذي مغزى…
في المقابل، اليوم تترسم قواعد جديدة للعبة الأمم في المنطقة، حرباً وسلماً، ودائماً لمصلحة الأطراف التي انخرطت في معركة النصرة والإسناد لغزة ومقاومتها… اليوم، وبعد الطوفان، ثمة صورة جديدة لشرق أوسط جديد.