العدوان ووسائل الإعلام العربية: استنفار و”طناش” وغاية
تغطية وسائل الإعلام العربية للعدوان الإسرائيلي لم تكن واحدة، سواء لجهة المساحة والزمن المخصصين لذلك الحدث من مجمل الأحداث اليومية المحلية والخارجية أو لجهة سياسة التحرير المتبعة.
زياد غصن
كاتب سوري
مع اقتراب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من إكمال شهره الثالث وبلوغ عدد الشهداء أكثر من 30 ألف شهيد، أي ما يعادل 30% تقريباً من إجمالي عدد الشهداء الفلسطينيين منذ وقوع النكبة ولغاية العام الماضي، تحافظ معظم وسائل الإعلام العربية على طريقة محددة في تغطيتها لتطورات العدوان، مستنيرة في ذلك بالموقف السياسي لحكومة كل منها، ومن سياستها التحريرية في مقاربة ملفين أساسيين: الأول نظرتها إلى مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي ككل، والآخر هو الموقف من محور المقاومة ما يستتبعه ذلك من تصورات ووجهات نظر وتحميل مسؤوليات وما إلى ذلك.
وبناء عليه، فإن تغطية وسائل الإعلام العربية للعدوان الإسرائيلي لم تكن واحدة، سواء لجهة المساحة والزمن المخصصين لذلك الحدث من مجمل الأحداث اليومية المحلية والخارجية أو لجهة سياسة التحرير المتبعة. هذا استنتاج واقعي يخلص إليه أي مواطن عربي متابع للحدث الفلسطيني عبر عدة وسائل إعلام محلية أو عربية أو حتى أجنبية.
ثلاث خانات
في المنطقة العربية، لا يخرج الإعلام التقليدي بمختلف وسائله، وبشقيه العام والخاص، عن الموقف السياسي للحكومات. هذا أمر ليس بجديد، إلا أنَّ هذا الإعلام كان يحتفظ في بعض الدول بهامش أكبر في تناول تطورات القضية الفلسطينية لاعتبارات بعضها متعلق بحساسية هذا الملف على المستوى الشعبي، وبعضها الآخر خاص بالحكومات الساعية لتقديم نفسها كمدافع عن قضية العرب المركزية.
والمقصود هنا بالهامش الأكبر ما كان يتعلق مثلاً بانتقاد الدول الداعمة للكيان الصهيوني، والاصطفاف خلف كل فعل مقاوم وغير ذلك.
اليوم، تغير المشهد بالمطلق، متأثراً بعدة متغيرات شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، أبرزها دخول دول عربية عدة على خط التطبيع المباشر وغير المباشر مع الكيان الصهيوني، وما أدى إليه “الربيع العربي” من تدمير لدول عربية أساسية، وحدوث خلافات عربية عميقة، إضافة إلى التدخلات الخارجية التي وصلت إلى مرحلة احتلال أراضٍ عربية ومحاول تقسيمها دولها.
لذلك، إن طريقة مقاربة وسائل الإعلام العربية للعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة وتغطيتها يومياته ليست سوى انعكاس للمتغيرات التي شهدها الواقع العربي خلال السنوات الأخيرة، ويمكننا في هذا السياق تصنيف التغطية الإعلامية العربية للعدوان الإسرائيلي ضمن 3 خانات:
– الخانة الأولى تضم وسائل الإعلام التقليدية الصادرة أو المملوكة لدول وجهات ومؤسسات مصنفة ضمن محور المقاومة، والتي استنفرت منذ اللحظات الأولى لعملية “طوفان الأقصى” مدافعة عنها باعتبارها تجسيداً لحق الشعوب في مقاومة المحتل بكل الطرق والسبل، إذ خصصت كامل وقتها ومساحتها لتغطية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وفضح جرائمه ومجازره بحق آلاف المدنيين الأبرياء، وكشف داعميه من الدول والحكومات الغربية والعربية، ومحاولته تجويع ما يزيد على مليوني شخص يعيشون في القطاع.
هذه الوسائل لا تزال مستمرة بعملها الإعلامي رغم مرور 90 يوماً على العدوان، ولم تنجر إلى ما يمكنه تسميته بالاعتياد أو التأقلم مع مشهد القتل والدمار في محافظات القطاع وقراه، وذلك عبر إعادة ترتيب للأخبار الواردة من القطاع ضمن نشرات أخبارها أو من خلال المساحة والوقت الممنوحين لتلك الأخبار.
ونتيجة لذلك، فإن معظم هذه الوسائل يحضر على لوائح الاستهداف المباشر لقوات الاحتلال الإسرائيلي، سواء من خلال إطلاق الرصاص وقنابل الطائرات على الفرق الصحافية العائدة لهذه الوسائل، كما حدث مع الزملاء العاملين في قناة الميادين وفضائية الأقصى والمنار وغيرهم من الزملاء العاملين في قطاع غزة لوسائل إعلام محلية، الأمر الذي أدى إلى استشهاد نحو 100 صحافية وصحافي، أو من خلال منعها من التغطية في الأراضي العربية المحتلة والتحريض عليها دولياً لمنعها من البث عبر الأقمار الصناعية.
– الخانة الثانية تشمل وسائل الإعلام الصادرة أو المملوكة لدول وجهات مصنفة ضمن محور الاعتدال العربي، وأحياناً يمكن وصفه أيضاً بمحور التطبيع.
هنا، فرض الخبر المتعلق بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة نفسه على هذه الوسائل، لكن من دون أن يأخذ حقه في التحليل والتعليق والتحقيق، فجاء خبراً قصيراً، معزولاً عن محيطه، متأخراً عن أخبار الدولة وإنجازاتها، وخجولاً مقارنة بهول ما أصاب الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة، بل إن بعض فضائيات تلك الدول لم تكلف نفسها عناء تغيير بعض من برامجها لتكون أقل بهرجة وفرحاً.
في هذه الوسائل، يتحول شهداء المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان إلى قتلى بنيران الجيش الإسرائيلي، وتتحول عملية “طوفان الأقصى” إلى هجوم بربري، وتُحمل كتائب عز الدين القسام المسؤولية عما يتعرض له أبناء القطاع من مذبحة مستمرة منذ ما قبل النكبة. وفي أحسن الأحوال، يكون الخبر الفلسطيني مشابهاً لما تبثه وتتناقله وكالات الأنباء والفضائيات العالمية.
– الخانة الثالثة تنضوي ضمنها وسائل الإعلام المختلفة التي لا تزال إلى اليوم تمنح اهتمامها الكامل للتغطية الإعلامية المباشرة لأحداث العدوان، لكن من دون أن تكون هذه الوسائل محسوبة على محور المقاومة أو مرتبطة علانية بالموقف السياسي للدولة الممولة والداعمة لها.
عملياً، يمكن التمييز بين نوعين من هذه الوسائل: الأولى تضم الوسائل التي تسعى لاستعادة شعبيتها في الساحة العربية بعدما فقدت جزءاً منها بسبب طريقة تغطيتها للأحداث المرافقة لـ”الربيع العربي”.
وبالتأكيد، ليس هناك أفضل من هذه الظروف لتحقيق ذلك، إذ يصبّ الشارع العربي جام غضبه على النظام العربي العاجز عن مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ويطمح إلى سماع أخبار بطولات فصائل المقاومة الفلسطينية وهزيمتها الجيش الذي ظل يردد لعقود أنه لا يقهر، فتبين أنه أوهن من بيت العنكبوت.
لكن اللافت في سياسة التحرير التي اعتمدتها هذه الوسائل أنها في مقابل تغطيتها ونقلها مجريات العدوان الإسرائيلي وتصدي فصائل المقاومة له أفردت مساحة ليس قليلة لتصريحات وكلمات وخطابات المسؤولين الإسرائيليين بذريعة التزامها بممارسة القواعد المهنية، وهو تقليد قامت عليه بعض الفضائيات منذ عدة سنوات ضمن ما سمى بالتطبيع الإعلامي مع العدو الإسرائيلي.
وإذا كانت بعض هذه الوسائل تسمي ضحايا العدوان الإسرائيلي شهداء، فإن بعضها الآخر كان أكثر وقاحة وقبحاً بتسميته الشهداء “قتلى”.
أما النوع الآخر، فهو الوسائل التي ظهرت في السنوات التالية لـ”الربيع العربي”، والتي حاولت إظهار نفسها وسائل إخبارية تسعى لحجز مكان منافس لها على خريطة البث الفضائي أو الإلكتروني.
هذه الوسائل وإن كانت تحاول إظهار نفسها كمدافع عن الشعب الفلسطيني وما يتعرض له في هذا العدوان، إلا أنها لا تفوت الفرصة لتوجيه انتقادات إلى دول محور المقاومة وفصائلها خارج الإطار الفلسطيني، بدءاً من إيران وسوريا الداعمتين الوحيدتين لفصائل المقاومة بكل ما لهذا الدعم من معنى، وصولاً إلى اليمن الذي فرضت قواته حصاراً على ميناء أم الرشراش (إيلات)، الأمر الذي يجعلها في موضع تشكيك، ويطرح أيضاً تساؤلات عن طبيعة الأهداف التي تسعى لتحقيقها، ولا سيما أن معظم الانتقادات تطال سياسات تلك الدول في دعم فصائل المقاومة.
خرق شبكات التواصل
في ظل هذا التباين الواضح لتغطيات وسائل الإعلام العربية التقليدية، خرقت شبكات التواصل الاجتماعي حالة “التخندق” السياسي التي عاشتها تلك الوسائل في تعاطيها مع العدوان الإسرائيلي على غزة، عبر تحول منصاتها الإلكترونية إلى مصدر هام لنقل وتداول المعلومة المتعلقة بقطاع غزة، وكذلك إلى منصة للتعبير عن الموقف حيال ذلك العدوان والوضع العربي العاجز. وقد ساعدها في ذلك عدة نقاط، أهمها:
– الفيديوهات التي تنشرها فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي توثق من خلالها عملياتها ضد قوات العدو الصهيوني. وقد أعادت للنفس العربية منذ اللحظات الأولى بعضاً من توازنها الذي فقدته من جراء هول المجازر والجرائم الصهيونية، والموقف العربي الضعيف والمتهرب من تلبية تطلعات الشارع العربي واستغاثة سكان القطاع.
– التوثيق المستمر للناشطين من أبناء القطاع الصامد، والذين أثروا شبكات التواصل بكم هائل من الرسائل والصور والفيديوهات التي ترصد يوميات العدوان وآثار الدمار والخراب وحال المدنيين الفلسطينيين وما يتعرضون له من تنكيل وعذاب واستهداف وقتل.
– الصور والفيديوهات التي كان جنود الاحتلال الإسرائيلي يبثونها، والتي انقلب فيها السحر على الساحر، فهذه الصور التي كان يراد منها رفع معنويات الشارع الصهيوني المنهار تحولت إلى دليل إدانة للممارسات العنصرية للكيان وخوفه ورعبه من مواجهة فصائل المقاومة.
– إبداعات الناشطين العرب في شبكات التواصل الاجتماعي الذين سعوا لاستثمار كل فكرة وصورة ورسم وقصة لدعم صمود الشعب الفلسطيني وتعرية الاحتلال الفلسطيني وكشف زيف ادعاءاته وتصريحاته وخططه ونياته.
– رغم ظهور بعض الفيديوهات والصور المعاكسة لموقف الشارع الشعبي من العدوان الإسرائيلي على القطاع من مسؤولين أو شخصيات عربية عامة، فسرعان ما تحولت تلك الصور والفيديوهات إلى مادة للتندر والإدانة والسخرية، وهو ما يؤكد أن الضمير العربي لا يزال حياً.