هولوكوست غزة، وأسئلة تحتاج إلى أجوبة؟
تحليل
هل صحيح أن العملية العسكرية، التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، كانت استباقية قبل عملية إسرائيلية مخطّط القيام بها بعد الأعياد؟
أليف صباغ
محلل سياسي مختصّ بالشأن الإسرائيلي
كيف حاول نتنياهو أن يستفز المقاومة في غزة خلال الفترة السابقة؟
كباحث سياسي، لا أقرأ الحاضر وفق معطيات الحاضر فقط، بل يتطلب مني مراجعة الماضي، بكل ما فيه من تصريحات وأعمال وخطط معلنة أو شبه علنية، وأربطها بالحاضر، لأن الأحداث، سياسية كانت أو عسكرية، هي محطات في مسيرة سابقة واستمرارها قادم.
لذلك، إذا راجعنا كل التصريحات التي صدرت عن مكتب نتنياهو أو مكتب وزير الحرب، غالانت، ومن سبقه، أو على لسان قيادة الأركان، أو لنقل التحذير والتهديدات التي تم توجيهها إلى قوى المقاومة، من جانب حلفاء “إسرائيل”، مثل الولايات المتحدة أو أتباعها العرب، فلا بد من أن نتأكد من أن “إسرائيل” تخطط عملية عسكرية إسرائيلية ضد المقاومة في قطاع غزة بالذات، وأنها ستكون استمراراً للحملة العسكرية التي شنتها قوات الاحتلال ضد المقاومة في الضفة، ولا تزال مستمرة، منذ شباط/فبراير 2021 واسمها “كاسر الأمواج”، بهدف حسم الصراع بالقوة. ربما ننسى سياق الماضي وربطه بالحاضر أحياناً، بسبب تراكم الأحداث!
إذا راجعنا، أيضاً، مجمل الندوات التلفزيونية الإسرائيلية التي أُجريت خلال الأشهر الأخيرة، قبل أو بعد كل اجتماع للكابنيت الأمني، وشارك فيها مراسلون عسكريون وسياسيون ومعلقون وباحثون في أكبر مراكز الأبحاث السياسية والأمنية في “إسرائيل”، فسنجد بالتأكيد أن أحد العوامل الأساسية، والذي منع القيام بعملية عسكرية ضد المقاومة في القطاع، هو فترة الأعياد. وكنا أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة في وسائل الإعلام العربية، لأن حاجة نتنياهو إلى الحرب، بهدف التغلب على الصراعات الداخلية، لا تقل عن حاجة الجيش إلى عملية عسكرية تعيد إليه ثقته بالردع، وتعيد توحيد صفوفه التي تصدعت بسبب الصراعات السياسية الداخلية.
لقد حاول نتنياهو أن يستفز المقاومة في غزة خلال الفترة السابقة، علها ترد بقدر يسمح له باستغلال الفرصة ليقوم بعملية عسكرية دموية وكبيرة، وكان أخر هذه الاستفزازات قصف مواقع في القطاع في يوم الغفران وقبل انتهائه بساعتين، وكان في ذلك رسالة، مفادها أن لا قيود للقيام بعمل عسكري، لكن المقاومة لم ترد لأنها كانت على ما يبدو تستعد للحظة الصفر.
لا ننسى أيضاً ما صرح به نائب رئيس حماس، صالح العاروري، في اليوم الأول من المعركة، ومفاده أن المقاومة كانت على علم بأن “إسرائيل” ستقوم بحملة عسكرية ضد المقاومة في القطاع بعد الأعياد مباشرة. لذلك، يمكن القول فعلاً إنها عملية استباقية منظمة جداً نُفِّذت بأدق التفاصيل، وفاقت نتائجها توقعات رجال المقاومة أنفسهم. وهذا سبب توقيتها الدقيق. وكانت فكرة العملية الاستباقية استوحتها المقاومة من تجارب سابقة، قامت بها قوات الاحتلال بضربات استباقية ناجحة ضد المقاومة في القطاع، وبالذات ضد الجهاد الإسلامي مؤخراً، وأعلنت قوات الاحتلال، أكثر من مرة، في تقويمها للمعارك التي بدأت بعملية استباقية غادرة، أهمية التضليل والغدر والاستباق في كل مرة. وهذا ما أرادت المقاومة تفاديه عبر عملية استباقية عكسية.
ما أسباب هذه المعركة أو الحرب وأهدافها؟
نؤكد أولاً، أن للحرب أهدافاً، عسكرية أو سياسية، لكن الأهداف الاستراتيجية غالباً ما تكون سياسية. أما الحديث عن الأسباب فيأتي لتبرير القيام بالعمل العسكري. وغالباً ما نسمع قيادات سياسية تقول: هذه حرب “اللامفر”، وإننا أُجبرنا على ذلك، أو إنها حرب دفاعية. بهذه اللغة والمبررات يمكن إقناع أهالي الضحايا بصورة أسهل.
للإجابة عن الأسئلة: لماذا أعدّت المقاومة هذه العملية العسكرية الكبيرة؟ وما الذي دفعها إلى ذلك، وما أهدافها؟ نقول:
يشهد تاريخ المقاومة الفلسطينية أنه كلما تُرك الشعب وحده في المعركة ضد الاحتلال، انتفض في رسالة واضحة للعالم كله، وبذلك يجدد لهيب الثورة ويوحد صفوفه ويمنع الهزيمة النفسية/المعنوية، التي يمكن أن تفقده حقوقه ومستقبلة كشعب. هكذا كانت انطلاقة الثورة عام 1964، وهكذا كانت انطلاقتا الانتفاضتين الأولى والثانية، وهكذا كانت هبّة أيار/سيف القدس 2021، وهكذا أيضاً هي عملية طوفان الأقصى.
منذ أن أعلن ترامب خطته المعروفة بصفقة القرن وتبعها تطبيع عربي مهين تحت عنوان “السلام الإبراهيمي”، وتغييب الحق الفلسطيني عن جدول أعمال الدول العربية جميعها، وتغييب الحق الفلسطيني عن جدول أعمال أي وزير خارجية أجنبي، بضغط من الإدارتين الأميركيتين، السابقة والحالية، ومحاولات كل هؤلاء إقناع الشعب الفلسطيني، بمساعدة قيادته الرسمية، بأن لا حل في القريب، وأن الدولة الفلسطينية أصبحت حلماً غير واقعي، وأن قضية الاسرى لا بد من التعايش معها إلى الأبد، وأن الأقصى “له الله يحميه”، وتخاذل الجميع عن دعم المقاومة، ما عدا إيران وحزب الله، أو لنقل محور المقاومة، الذي يتعرض كله لضغوط دولية وإقليمية، شعر الفلسطينيون بأنهم تُركوا وحدهم، وأن حقوقهم أصبحت في مهب الريح، وقد ضحّى العرب بدماء الشهداء الفلسطينيين وأرواحهم، كل من أجل مصالحه الوهمية، وأن الحل الوحيد هو الاعتماد على النفس وعلى مساعدة محور المقاومة فقط.
وعليه، تصالحت حماس مع سوريا، وبدأت الاستعدادات بالتخطيط والتدريب والتسلح، وكل ما تحتاج إليه المعركة لتصل المقاومة إلى ما وصلت إليه.
مؤخراً، جاءت المبادرة الأميركية للتطبيع بين السعودية و”إسرائيل” استرضاءً لنتنياهو، وتعويضاً من التفاهمات الأميركية الإيرانية، وفي الوقت ذاته كان أحد أهداف المبادرة هو تخريب أي تقارب إيراني سعودي، يمكن أن يخدم المقاومة. فهم الفلسطينيون أن كل هذا الحراك الأميركي الإسرائيلي سيأتي على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ويأتي ضمن استراتيجية التآمر على المقاومة الفلسطينية، وتركها وحيدة داخل الحصار الوحشي في قطاع غزة.
من أجل كل ذلك وأكثر، انطلقت المقاومة، في هذا التوقيت بالذات، في عملية عسكرية استباقية ومدروسة، وعبر تنسيق مستمر مع محور المقاومة، وكانت أهدافها، كما صرح بذلك القائد محمد الضيف، قائد كتائب القسام، كما يلي:
أولاً، فك الحصار عن قطاع غزة من خلال اقتحام الجدار أو السياج، الذي يحاصر به المحتلون قطاع غزة، ليثبت للجميع أن كسر الحصار ممكن وليس مستحيلاً، كما يروّج المطبعون.
ثانياً، الدفاع عن الأقصى ومنع تهويده في ظل تقاعس النظام العربي الرسمي، ومنه سلطة رام الله والأردن والسعودية.
ثالثاً: أسر أكبر عدد ممكن من الجنود الإسرائيليين بهدف إحياء عملية تبادل للأسرى ولإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين.
رابعاً، وقف العدوان الإسرائيلي المستمر على المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية.
خامساً، إعادة القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الدولي، ومنع نسيانها أو محوها، كما تحلم إسرائيل في ظل التطبيع المهين.
الفشل أو النجاح
لم تنته المعركة/الحرب بعد. لذلك، لا يمكن تقويمها عبر معايير الفشل أو النجاح في الوقت الحاضر، إلّا أن الحقيقة، التي لا تقبل الشك، أن القضية الفلسطينية عادت إلى التداول، دولياً وإقليمياً، وأن أسطورة الجيش الإسرائيلي تحطمت، وأن أسطورة التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية تحطمت أيضاً. ومن المتوقع والمأمول، أيضاً، أن تتوقف عملية التطبيع مع السعودية إلى إشعار آخر، كما صرح مكتب ولي العهد محمد بن سلمان، أو حتى تجد القضية الفلسطينية حلاً يُرضي المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، لا سلطة أوسلو.
الأهداف الإسرائيلية والأميركية: من لم يطبّع بالحسنى سيطبّع بالقوة
أما بالنسبة إلى “إسرائيل” وأميركا، فلهذه الحرب دوافع وأهداف أخرى؛ فإذا كانت الدوافع الفلسطينية محدودة، وتتلخص بما ذكرناه أعلاه، فالدوافع الإسرائيلية تكمن في استراتيجيتها لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني من خلال فرض التطبيع مع العالم العربي بالدبلوماسية أو بالقوة، لأن التطبيع هو ما يسهل على “إسرائيل” تعزيز نفوذها الاستخباري في الشرق الأوسط، وتعزيز اقتصادها من خلال الاستثمارات الخليجية في التكنولوجيا الإسرائيلية، وتحقيق حلمها الاستعماري القديم بربط الشرق الأوسط بأوروبا اقتصادياً من خلال الشواطئ الإسرائيلية، المتمثل بإقامة شبكة الخطوط البرية من سكك حديدية وطرقات سريعة وأنابيب نفط وغاز وإمدادات إنترنت، وكلها تربط الشرق الأوسط مع أوروبا. من هنا يمكن فهم المصلحة الأوروبية بسحق المقاومة وانتصار “إسرائيل”.
كل هذا لا يزال معطلاً في التقييم الإسرائيلي بسبب المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي جعل السعودية تتردد وتؤجل وتطالب “إسرائيل بتقديم تنازلات”… هذا التردد أقلق نتنياهو وعرقل المخططات الاستراتيجية القديمة/ المتجددة للحركة الصهيونية.
وفي اعتقاد نتنياهو، فإنه لو حصل على هذا الإنجاز، أي التطبيع مع السعودية، أو على الأقل موافقتها على تمرير المشاريع الإسرائيلية من دون تبادل دبلوماسي، كما صرح مؤخراً في الأمم المتحدة، فسيتمكن من التغلب على منافسيه في الساحة الإسرائيلية. وعندها، سيكون مستعداً لخوض انتخابات جديدة يكسب فيها أكثر مما هو فيه. وبذلك، يحقّق برنامجه في الانقلاب على القضاء بسهولة.
وحين لم تتكلّل كل جهوده هذه بالنجاح، أوعز إلى أصدقائه في البيت الأبيض بأن تبادر أميركا إلى مشروع الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا؛ هذا البرنامج الذي يشمل المخطط الإسرائيلي للشرق الأوسط الجديد من بنى تحتية، ويضمن أن تكون أوروبا وأميركا والهند والسعودية على قلب واحد ومصلحة مشتركة تصبّ في بدايتها ونهايتها في تعزيز الدور الإسرائيلي الصهيوني في الشرق الأوسط. شراكة من هذا النوع تأتي على شاكلة الشراكات التي بنتها “إسرائيل” وأميركا مؤخراً في شرق المتوسط، وتلك التي بنتها مع دول حوض البحر الأحمر.
أما الأهداف، فإذا كانت الأهداف الفلسطينية محدودة بما ذكرناه أعلاه، فالأهداف الإسرائيلية والأميركية المرتبطة بالدوافع التي ذكرناها أوسع من ذلك بكثير، وتصل إلى أهداف إقليمية ودولية مرتبطة بخلق شرق أوسط جديد يشكل جزءاً من النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، والذي يكاد يضيع منها.
وتضرب هذه المبادرة، في الوقت ذاته، المشاريع الإيرانية والصينية المتمثلة بطريق الحرير الجديد، والتي تعني وصول الصين إلى أوروبا عبر إيران والعراق وسوريا ولبنان، ومن هناك إلى أوروبا. لم يتردد نتنياهو في أن يقول في تصريحاته بكل وضوح إن للحرب أهدافاً إقليمية “لتغيير واقع الشرق الأوسط ومستقبله”.
وقد أكد ذلك العديد من الاستراتيجيين الإسرائيليين، آخرهم قائد سلاح البحرية الإسرائيلية الأسبق تشيتي ماروم، حين أكد على شاشة القناة 13 الإسرائيلية أن “لنتائج هذه الحرب تأثيراً كبيراً في النظام العالمي”.
أما أميركا والرئيس بايدن، فلهم أهداف إضافية من سحق المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن الأهداف الأميركية الإسرائيلية المرتبطة بالنظامين الدولي والإقليمي الجديدين، إذ إن انتصار “إسرائيل” وفرض التطبيع على السعودية ومن يتبعها في ذلك يعني انتصار بايدن في الانتخابات الأميركية المقبلة، وتحقيق مشروع الممر الاقتصادي من الهند إلى أوروبا هو ضمانة كبرى لأميركا في الصراع مع الصين في المنافسة الاقتصادية الكبرى، وهو ضمانة كبرى لتعزيز القوة الأوروبية الموالية لأميركا في مقابل روسيا الصاعدة.
هل يمكن أن تشنّ “إسرائيل” حرباً برية على غزة؟
نعم، هذا وارد بالتأكيد، وهو مسار معلن منذ اليوم الأول، ويبقى السؤال: لماذا تأخرت هذه الحملة بالرغم من كل الضربات الجوية الوحشية التي يعتقد الكثير من المحللين العسكريين أنها مقدمة ضرورية للهجوم البري؟
يكمن الجواب في النقاشات الجادة بين القيادات العسكرية الإسرائيلية والأميركية في غرفة العمليات المشتركة. أميركا تريد هجوماً برياً على قطاع غزة الآن، فيما يقول الإسرائيليون إن الثمن الذي سيدفعه “الجيش” سيكون كبيراً جداً، ومن المتوقع أن تكون تداعياته أكبر من قدرة المستوطنين على تحمّلها، وليس لدى “إسرائيل” أي برنامج لما بعد الهجوم البري.
كذلك، ليس لدى “الجيش” أي ضمانة بتحرير الأسرى. أما البديل، في نظر “الجيش” الإسرائيلي، فهو القيام بعملية هجومية على حزب الله باستخدام الطيران بكثافة في الدقائق الأولى، مستعيناً بوجود القوات الأميركية في البحر المتوسط، وهي فرصة لا يجوز تفويتها، كما يقول ويردد الكثير من المحللين والاستراتيجيين العسكريين.
في المقابل، تتطلع أميركا إلى مصالحها، وتردّ بأن مثل هذا الهجوم على لبنان سيفقدها الكثير من تأييد الأصدقاء في الشرق الأوسط، وحتى في الولايات المتحدة، وسيعرض قواعدها في الشرق الأوسط ومصالحها الاقتصادية الاستراتيجية لهجمات من اليمن والعراق، وربما من إيران. وقد يكون لحزب الله أسلحة لقصف حاملة الطائرات في البحر المتوسط.
هل تريدون توريطنا في حرب إقليمية كي تحموا جنودكم من أي معركة برية في القطاع؟ هذا النقاش ما زال يؤجل أي عملية برية. وخلاله، يتم قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين وتدمير أكثر ما يمكن من مؤسسات مدنية في القطاع، فهل باتت الهجمة الإسرائيلية الاستباقية على لبنان أكثر احتمالية؟ إنها مسألة وقت أو سباق.