“إسرائيل” تستشرف مستقبلها.. استراتيجيات للعام الجديد
أليف صباغ
محلل سياسي مختصّ بالشأن الإسرائيلي
كثيرة هي العناوين التي طرحت مؤخراً في مراكز الأبحاث الإسرائيلية ويبدو أنها ستشكّل محاور نقاش للعام المقبل.
عندما نتحدَّث عن استراتيجية “إسرائيل” أو الكيان الصهيوني، لا بدّ من أن نفهم أننا نتحدث عن استراتيجية الحركة الصهيونية للمرحلة القادمة محلياً وإقليمياً ودولياً، لأنَّ الحركة الصهيونية لا ترى في “إسرائيل مجرد دولة تعكس حياة شعب ككلِّ الشعوب ومصالحه”، إنما تعكس واقع ومستقبل مشروع استيطاني متعدد الأبعاد، له أبعاد محليّة وإقليميّة ودوليّة، وهو مختلف عن كلّ المشاريع الاستيطانية في العالم بأنه لم يحقّق بعد حالة الاستقرار، إنما هو في حالة تبلور غير مكتملة، كما أنّه يقوم بدور وظيفيّ استعماريّ عالميّ.
يطالب قياديو هذا المشروع بأن يهبّ العالم الاستعماريّ لنجدتهم في كلِّ مرحلة تاريخية، وفق مصالحهم الخاصّة، وهم يرون أنَّ الاستعمار الغربيّ ملزم بذلك، لما يقوم به هذا الكيان من دور حاسم في الاستراتيجية الاستعمارية الغربية في مواجهة أيّ نهوض حضاري عربي إسلاميّ محتمل.
لا تقتصر المؤتمرات أو الأيام الدراسيّة التي تُعقد تباعاً على مراكز الأبحاث الاستراتيجية، السياسية والعسكرية، كما هو معروف، بل تشارك في ذلك مئات المؤسَّسات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية وغيرها على كلِّ المستويات القطرية والمحلية، ويضع كلٌّ منها تصوراتها المستقبليّة، إما ترجمة تفصيلية للاستراتيجية الصهيونية العليا، وإما مساهمة من هذه المؤسسات في صياغة الاستراتيجية الصهيونية العليا، وكثيراً ما يكون الأمر دمجاً بين الاتجاهين.
كان آخر هذه المؤتمرات هو مؤتمر مجلّة أو موقع “كلكاليست”، وهو المؤسَّسة الإعلامية للبنوك ولشركات الاقتصاد الكبرى في “إسرائيل”، يوم 29/12/2021، تحت عنوان “مؤتمر الرصد المستقبلي: كيف تبلور الحكومةُ الجديدة مستقبل الدولةَ في السنوات القريبة”.
شارك في هذا المؤتمر عشرات المتحدّثين، بدءاً برئيس “الدولة” ووزراء وسياسيين على اختلاف مواقعهم، ومديرين عامين لبنوك كبيرة وشركات رائدة في الاقتصاد الإسرائيلي، ومنهم مديرو صناديق استثمار كبرى، وقيادات عسكرية من الدرجة الأولى، من أولئك الّذين يعملون في التخطيط الاستراتيجي للجيش، وحتى مخرجو الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية.
لكن اللافت للانتباه هو أنَّ العربي الوحيد بين عشرات المشاركين كان عضو الكنيست أحمد طيبي، ما يشير إلى الدور الهامشي جداً لفلسطينيي الـ48 في الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصاً في التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي، ولا سيّما أنَّ الطيبي لم يتحدّث في الاقتصاد، بل كانت غالبية مداخلته مناكفة للقائمة العربية المشاركة في الحكومة، وإبراز فشل الشرطة في مواجهة الجريمة المنظمة في البلدات العربية.
رغم هذا التهميش، فإنَّ كبرى شركات الهايتك، “أمادوكس”، تنظر إلى “المواطنين العرب” بتقدير كبير. المدير العام لشركة “أمادوكس” فرع “إسرائيل”، شاي ليفي، قال في مداخلته: “إن المجتمعين، العربي واليهودي المتدين (الحريديم)، يتمتعان بقدرات كامنة عالية وغير مستغلة في الهايتك”. وأضاف: “إن لم نعمل على إعداد هذه القدرات الكامنة ودمجها ستنقصنا قوى بشرية للعمل في الهايتك، وبالتالي ستهرب الاستثمارات إلى الهند وأماكن أخرى”.
لذلك، أقامت شركة “هايتك” مركزين في الضواحي بعيداً عن “تل أبيب”؛ الأول في “سديروت” (الجنوب)، ويعمل فيه 600 عامل منذ 20 عاماً، والآخر في الناصرة، ويعمل فيه 200 عامل. “وقد تحوَّل مركز الهايتك في الناصرة إلى مركز تطوير تكنولوجي، نظراً إلى وجود مجوهرات غير مستغلّة هناك”، يقول ليفي، ويضيف: “الثقافات المختلفة تنتج ثماراً أفضل”. ودعا الوزارات المختصّة إلى تكثيف التعليم التكنولوجي في المدارس الابتدائية والثانوية.
لم يقتصر برنامج المؤتمر على الاقتصاد، كما يتوقع القارئ في الوهلة الأولى، إنما بدأ بحديث مع رئيس “الدولة”، إسحق هرتسوغ، حول “التحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل في السنوات القادمة”، ثم أحاديث أخرى عن “كيفية تسريع التنمية الاقتصادية في إسرائيل، والتكنولوجيا والحداثة في إسرائيل بنظرة مستقبلية، والعقيدة الأمنية لإسرائيل في شرق أوسط متغير، وسوق العقارات الصاخب، والأمن الغذائي، باعتباره جزءاً من الأمن القومي، وصناديق الاستثمار في ظل كورونا، باعتبار أنَّ الظروف الخاصة قد تشكّل رافعة لفرص اقتصادية جديدة”.
درور بين، مدير عام “سلطة الحداثة التكنولوجية”، حذَّر من فقدان “إسرائيل” موقعها الريادي في المستقبل القريب، وقال: “هناك شعور لدى الجمهور الإسرائيلي بأن الهايتك الإسرائيلي ناجح، وسيبقى كذلك، وهذا غير صحيح، لأنّ دولاً عديدة في الغرب والشرق، بما في ذلك الصين، فهمت أنَّ المستقبل مرتبط بالحداثة التكنولوجية، وهم يتقدمون بنجاح، وإن لم نعمل كثيراً في هذا المجال، سنجد أنفسنا قد خسرنا الريادة”.
هرتسوغ، وبما يخصّ مفاوضات فيينا، أشار وبقلق إلى أنَّ “المفاوضات دخلت مرحلة حسّاسة، لكن أميركا تنسّق مع الدول العظمى أكثر مما تنسق مع إسرائيل”.
تكنولوجيا الليزر ستنضم إلى الحرب القادمة
الجنرال عميكام نوركين، قائد سلاح الجو، قال: “إن تكنولوجيا الليزر ستنضم إلى تكنولوجيا الحروب القادمة، وستغير مجريات الحروب”، وأكّد أهمية التكنولوجيا في الحياة العسكرية والمدنية، وأضاف: “الجندي الإسرائيلي يمسك بـ12% من التعليم التكنولوجي في إسرائيل، وهذه الاستفادة مهمة في الجيش، وهي تساعده لاحقاً عندما يتم تسريحه وينضمّ إلى العمل في الحياة المدنية”.
هناك مجال آخر أشار إليه نوركين، وهو “علوم الفضاء” ودورها في الحياة العسكرية. “باستخدام علوم الفضاء نصل أبعد، ونكون أكثر دقةً في إصابة الأهداف في الميدان الحربي. الآن، يجب أن نصل لنكون أكثر علواً. نحن نجمع معلومات استخبارية في الفضاء، وندير اتصالات، ونسقط صواريخ بالستية”. لا نعلم أنّ “إسرائيل” تعرَّضت لهجوم صواريخ بالستية وأسقطتها! وربما في مثل هذا التصريح، يشير الجنرال نوركين إلى مشاركة “إسرائيل” في الحرب ضد اليمن!
في السياق ذاته، أكّد نوركين أهميّة “التعاون الحاصل مع سلاح الجو الأميركي في أوروبا وفي الشرق الأوسط، وهذا التعاون يزيد من العمق الاستراتيجي لإسرائيل”.
مؤتمرات أخرى وتحدّيات إضافيّة
كان هذا هو المؤتمر الأخير الَّذي قدَّم رؤية استراتيجية للعام القادم، وربما أبعد منه، لكنه ليس المؤتمر الوحيد خلال الأشهر الأخيرة، إذ لم يبقَ مركز أبحاث في “إسرائيل” من دون أن يعقد مؤتمراً أو أكثر خلال السنة، ويقدم أوراق استراتيجية في الاقتصاد والسياسة والأمن وغيرها من المجالات.
أحد أهم المراكز الاستراتيجية هو “المعهد للسياسة والاستراتيجية” ((IPS، الذي نشر ورقة استراتيجية أعدها طاقم المعهد بمشاركة الجنرال احتياط، عاموس جلعاد، يوم 14/9/2021، تحت عنوان: “تحديات وفرص للأمن القومي الإسرائيلي”، في الطريق إلى السنة القادمة.
وقد جاء في مقدّمة الورقة أنَّ “السباق الاستراتيجي المتعاظم بين إسرائيل وإيران، في ظل إدارة أميركية جديدة، يشكّلان العاملين الأساسيين والمركزيين للمنظومة الشرق أوسطية للسنة الأخيرة. إلى جانب ذلك، هناك احتمال انفجار الجبهة الفلسطينية في الجنوب أو في الوسط، وتقدم مسيرة بناء القوة لحزب الله، وخصوصاً مشروع الصواريخ الدقيقة، وانتهاء الحرب الأهلية في سوريا، وتمركز الوجود الإيراني والروسي هناك، والمنافسة الإقليمية على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، والأزمة الاقتصادية العميقة في لبنان، وجائحة كورونا، وتعاظم الأزمة الاقتصادية الإقليمية، وعودة الخطر من الجهاد العالمي بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، كل هذا يجسد شمولية المتغيرات المنظوماتية في المنطقة وتداعياتها على الأمن القومي الإسرائيلي.
برنامج لبيد للحلّ الدائم: “الأمن مقابل الاقتصاد”
يوم 23/12/2021، اجتمع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد مع كبار الباحثين في مركز أبحاث الأمن القومي في “تل أبيب” لمناقشة المعادلة الجديدة التي يرى بها لبيد مشروعه السياسي القادم مقابل السلطة الفلسطينية في رام الله وفي غزة بالتوازي، وعنوانها “الأمن مقابل الاقتصاد”.
شارك في مناقشة هذه الرؤية، إضافةً إلى كبار الباحثين في المركز، قائد الأركان السابق غادي أيزنكوت، ومدير عام وزارة الخارجية ألون أوشفيز، ووزيرة الاقتصاد، الجنرال احتياط، أورنا باربيبئي.
هدف المشروع، كما قال لبيد للمجتمعين، هو “خلق حالة استقرار من طرفي الحدود أمنياً ومدنياً واقتصادياً وسياسياً”. وأضاف أنه “تواصل مع قيادات دولية عديدة، بدءاً من مصر حتى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكلهم يعتقدون أن لا طريق آخر لهذا الحل”. ويبدو أنَّ هذه المبادرة هي التي ستشغل وزارة الخارجية، وقد تتبناها الحكومة في المرحلة القادمة.
مواضيع أخرى مستقبلية
المواضيع التي طرحت في الأيام الأخيرة في مراكز الأبحاث، وخصوصاً في مركز أبحاث الأمن القومي، كثيرة، ويبدو أنها ستكون محاور نقاش للسنة القادمة أيضاً، منها:
سيناريوهات الحل الدائم وفق مبدأ “الدولة الواحدة”
آخذين بعين الاعتبار أنَّ مشروع “حل الدولتين” بات مستحيلاً، وفق منظور الواقعيين، وهم موجودون في عدد من مراكز الأبحاث الأميركية أو الإسرائيلية وحتى الفلسطينية، ويقدمون اقتراحات مثل:
“دولة وحدوية” في كل الأرض الفلسطينية من دون حدود بين الفلسطينيين واليهود، وقد تشمل قطاع غزة أو لا تشمله، أو “دولة واحدة مع حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية”، وقد يشمل ذلك قطاع غزة أيضاً، أو “دولة واحدة فيدرالية” مكوّنة من حكم مركزي وعدد كبير من المحافظات، منها ذات أغلبية فلسطينية، وأخرى ذات غالبية يهودية، أو “دولة كونفيدرالية”، وهي مكوّنة من كيانين يربط بينهما مركز حكم واحد، ويكون الخط الأخضر هو الحدود الوهمية بين الكيانين.
المشترك بين جميع هذه السيناريوهات هو القفز عن استحقاق إخلاء المستوطنات التي أقيمت على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 67، كذلك القفز عن استحقاق قيام دولة فلسطينية مستقلة.
مثل هذه السيناريوهات يناقش أيضاً في أوساط فلسطينيّة لها علاقات وثيقة مع أميركا، ومن المتوقع أن يأخذ هذا النقاش مداه في المستقبل القريب.
في العلاقة مع السعودية
لوحظ في الأيام الأخيرة تناول الإعلام الإسرائيلي أخباراً تفيد بأنّ السعودية تقوم بتصنيع صواريخ بالستية بتعاون صيني معها، كما تناولت وسائل الإعلام أخباراً منقولة عن مصادر أميركية مطّلعة بأن السعودية تقوم سراً بالإعداد لمشروع نووي بالتعاون مع علماء مصريين أو مع باكستان، والهدف منه هو مواجهة إيران، فهل يكون هذا أحد التحديات التي تواجه “إسرائيل” في السنة القادمة؟
الحرب القادمة والعلاقة مع أميركا
لا يمكن التحدّث عن التحديات المستقبلية لـ”إسرائيل” من دون تناول احتمال الحرب القادمة، إقليمية كانت أو محدودة، وموقف الولايات المتحدة منها. وقد بات واضحاً لكلّ الأطراف أنَّ “إسرائيل” لا تستطيع أن تشنّ هجوماً عسكرياً على إيران من دون إذن أميركي يأخذ بعين الاعتبار تدحرج أيّ عدوان إلى حرب إقليمية مدمرة، لكن في الوقت ذاته على إيران ومحور المقاومة أن يأخذوا بالحسبان إمكانية شنّ “إسرائيل” هجمات عسكرية على مناطق حسّاسة تردّ عليها قوى المحور، ويكون هدف “إسرائيل” هو جرّ أميركا إلى حرب إقليميّة.
مع ذلك، يمكن قبول التّلخيص الإسرائيلي للعلاقة المستقبلية بين “إسرائيل” والولايات المتحدة الأميركية، من خلال مضمون الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سليفان إلى “تل أبيب”، الأسبوع الماضي، والتقى خلالها كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين الإسرائيليين، ومفاد ذلك أنّ أميركا ملتزمة بالحفاظ على التفوّق العسكري الإسرائيلي، وباستمرار الحوار مع “إسرائيل” في ما يتعلّق بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، من دون أيّ التزام أميركيّ بالقيام بعمل عسكري ضد إيران إذا ما فشلت المفاوضات.
أما على الصّعيد الفلسطينيّ، فتبقى أميركا تعلن تأييدها “حلّ الدولتين”، لكنها في الواقع ترعى سياسة الحكومة الحالية القائمة على مبدأ التسهيلات الاقتصادية لسلطة رام الله مقابل ضمان استمرار التنسيق الأمني من الجهة الأخرى، وهذا يعني أنَّ الحكومة الحالية تنكّرت نهائياً لمبدأ “الأرض مقابل السلام” الذي قامت عليه مفاوضات “أوسلو”. وقد تجرّ أميركا إلى هذا الموقف أيضاً.
إضافةً إلى ذلك، تقوم العلاقة المستقبلية بين “إسرائيل” وأميركا على التزام أميركيّ بتوسيع اتفاقيات “أبراهام” وتعميقها لمصلحة “إسرائيل”. وقد وعد سليفان حكومة “إسرائيل”، وفقاً لوسائل إعلام المستوطنين، بأن تكون إندونيسيا هي الدولة المطبّعة القادمة، وإن كنا لا نرى إشارات إلى ذلك اليوم.
المقالة ليست بالضرورة أن تعبر عن سياسة القناة وانما تعبر عن رأي الكاتب نفسه