الاستبداد والتطبيع وجهان لبرهان واحد
د. وليد القططي
بعد هزيمة يونيو حزيران عام 1967م عقد الرؤساء والملوك العرب مؤتمر القمة العربية الرابع في الخرطوم عاصمة السودان المعروفة بقمة اللاءات الثلاثة، نسبة إلى ما جاء في البند الثالث من قرارات القمة، ونصها: “لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل”. وبعد أكثر من نصف قرن على هذه اللاءات في يناير كانون الثاني هذا العام وقعت حكومة السودان الانتقالية بتوجيه من الفريق أول عبدالفتاح البرهان- رئيس مجلس السيادة السوداني- على اتفاقية التطبيع مع (إسرائيل) المعروفة باتفاقيات أبراهام في الخرطوم بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية.
رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، الذي وقعت اتفاقية التطبيع في عهده، لم يترك الحدثين المتناقضين يمران دون سخرية من العرب الجدد المتحولين، فكتب في حسابه على التويتر متهكماً: ” في العاصمة السودانية الخرطوم تبنت الجامعة العربية في العام 1967م ثلاثة لاءات: لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل، ولكن اليوم الخرطوم تقول: نعم للسلام مع إسرائيل، نعم للاعتراف بإسرائيل، نعم للتطبيع مع إسرائيل”. وكأنه أخرج لسانه إستهزاءً بعرب قبلوا الاستعمار طوعاً، أو حرّك إصبعيه حول أذنيه استخفافاً بحكام رضوا بالاستحمار إذعاناً.
توقيع السودان برئاسة البرهان على اتفاقيات ابرهام سبقه اللقاء الذي تم في العاصمة الأوغندية عنتيبي في فبراير شباط عام 2020م، وتم فيه الاتفاق على تطبيع العلاقات بين البلدين، في قرار اتخذه العسكريون برئاسة عبدالفتاح البرهان، وفُرض على شركائهم المدنيين في الحكم برئاسة رئيس الحكومة عبدالله حمدوك، وبخلاف إرادة الشعب السوداني الرافض بعمومه للتطبيع مع العدو، وقد برر البرهان ذلك بأنّه يخدم المصلحة العُليا للسودان، ويحمل الخير للسودان”، باعتبار التطبيع هو مفتاح الرضى الأمريكي وبوابة الدخول إلى الجنّة الأمريكية، التي أولى درجاتها رفع العقوبات الأمريكية عن السودان بعد رفع اسمها من الدول الداعمة للإرهاب.
مسار التطبيع كان السمة البارزة لنظام الحكم في السودان بعد ثورة ديسمبر عام 2018م، بقيادة البرهان كرئيس للمجلس العسكري الانتقالي، ثم رئيس للمجلس السيادي السوداني، وهذا النظام العسكري الذي اضطر لتقاسم السلطة مع قوى الثورة السودانية ممثلة في (ائتلاف قوى الحرية والتغيير) لاكتساب الشرعية الثورية، لم يطق ذرعاً بهذه الشراكة التي تقيد طبيعتهم السلطوية الاستبدادية، فكان لا بد من إخراج المدنيين من السلطة أو تحويلهم إلى مجرد موظفين عند العسكر، وكان لا بد من قطع الطريق على أي مسار سياسي ديمقراطي يُعيد العسكر إلى ثكناتهم العسكرية. ليكتمل بذلك مسار الاستبداد مع مسار التطبيع.
كان البرهان قد مهّد لاستكمال مسار الاستبداد قبل شهر من إخراج المدنيين من السلطة، عندما اتهم الحكومة المدنية بالفشل في إدارة الدولة والصراع على السلطة، وحسم الأمر نائبه في مجلس السيادة وشريكه في الاستبداد محمد دقلو الشهير بـ (حميدتي)، عندما قال عن شركائهم المدنيين: “ما بنقعد معهم على ترابيزة واحدة”. فكان انقلاب البرهان وحميدتي ترجمة لذلك، وكان التبرير حاضراً في بيان الانقلاب وهو: “الحفاظ على مسار ثورة ديسمبر المجيدة، وتصحيح مسار الثورة”، وبذلك تم وأد روح الثورة باسمها، وحرف مسار الثورة بزعم تصحيحها.
وبذلك يكون مسار الاستبداد والتطبيع قد اكتملا في السودان بقيادة العسكر، وكأنهما وجهان لبُرهانٍ واحد، يؤكد تلازم المسارين معاً في نظام حكم عبدالفتاح البرهان، وكل الأنظمة العربية الحاكمة التي انضمت إلى نادي التطبيع مع الكيان الصهيوني بأوامر أمريكية، وهذا التلازم بين المسارين مصدره نابع من الطبيعة الاستبدادية للأنظمة العربية الحاكمة وحاجتها إلى الحماية الخارجية من دولة كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، تحميها من شعوبها، ومن الديمقراطية، ومن إيران.
حاجة الأنظمة العربية الحاكمة لحمايتها من شعوبها مصدره طبيعة الأنظمة بنخبتها الحاكمة المستحوذة على السلطة والثروة، التي تجعلها معزولة عن شعوبها، ويسكنها الخوف من ثورات شعبية تُطيح بها، وقد رسّخت أمريكا في وعي تلك النخبة المستبدة الفاسدة أنَّ مفتاح الرضى وبوابة الحماية هما الثروة و(إسرائيل)، فنهبت الثروة طوعاً وكرهاً، وفرضت التطبيع سراً وجهراً، فدخل العرب المتحولون في الحقبة الإسرائيلية، وهم فاقدون للإرادة والكرامة، وقد صدّق عليهم الشيطان الأكبر الأمريكي ظنّهُ فاتبعوه إلاّ فريقاً من المقاومين.
وحاجة الأنظمة لحمايتها من الديمقراطية إدراك نخبتها الحاكمة أنَّ التطبيع مع الكيان الصهيوني هو كلمة السر التي تحميهم من الضغوط الغربية الانتقائية لإجراء تحوّلات ديمقراطية تُهدد سلطتهم وثروتهم، وقد تؤدي إلى زوال نعمة السلطة، وأفول بحبوحة الثروة، فعلموا أنَّ تلك الضغوط تُمارس على الدول الرافضة للهيمنة الصهيوأمريكية في المنطقة، التي تسبح ضد تيار المشروع الغربي الاستعماري في العالم العربي والإسلامي، خاصة إذا كانت السباحة ضد رأس حربة المشروع (إسرائيل)، فعندئذٍ فإنَّ التطبيع يجبُّ ما قبله من طغيان واستبداد، وما بعده من قمع وفساد.
وحاجة الأنظمة لحمايتها من إيران أو أي عدو خارجي آخر منبعه وهم كبير ناتج من جهد هائل عمدت فيه أمريكا وحلفاؤها الغربيين والصهاينة وأتباعها في بلاد العرب إلى شيطنة إيران باعتبارها العدو المركزي للعرب من البوابة القومية أو المذهبية، كجزء من سياسة التخويف الغربية للأنظمة الحاكمة وشعوبها؛ لتحويل الأنظار عن عدو الأمة المركزي (إسرائيل)، كدولة ومشروع وتحدي لوحدة الأمة واستقلالها ونهضتها، وإيجاد عدو بديل يكون بمثابة (البُعبع) الذي يُخوّف به العرب ليظلوا بحاجة إلى حماية الغرب وأمريكا، وبوابة تلك الحماية هي التطبيع مع (إسرائيل)، وصولاً إلى التحالف معها وبقيادتها ضد (العدو الإيراني)، وضد كل محور المقاومة.
فصل المقال، فيما بين الاستبداد والتطبيع من اتصال، أنهما يسيران في مسار واحد دون انفصال، فهما وجهان لنظامِ حكمٍ واحدٍ في السودان، هو نظام حكم عبدالفتاح البرهان، وكل أنظمة الحكم المستبدة بالحكم والمُطبّعة مع الكيان، فالاستبداد يجعل الأنظمة الحاكمة بحاجة إلى أمريكا لتحميها من ثورات شعوبها، واستحقاقات الديمقراطية، وتهديد أعدائها، وبوابة الحماية الأمريكية أمران: نهب ثروات الشعوب، وتطبيع العلاقات مع (إسرائيل)، أحدهما أو كلاهما، وكلاهما- الاستبداد والتطبيع – يخرجان من شجرة خبيثة رويت من ماء آسن ملوث بكثير من الجور والطغيان وشيء من الذل والهوان.ش