الحركة الصّهيونيّة وتصريح بلفور.. قراءة تاريخيّة
حسن لافي
لا يُعتبر تصريح وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور نقطة تحوّل مركزي في تاريخ الحركة الصهيونية فحسب، بل يُعتبر أيضاً لحظة مؤسّسة لقضيّة شغلت العالم طوال الأعوام المئة الماضية، ومن الواضح أنَّها ستشغله لفترة أخرى من الزمن، وهي القضية الفلسطينية.
بموجب هذا التصريح، مُنحت الحركة الصهيونية الاعتراف بها وبمطالبها من قبل الدولة العظمى في ذاك الوقت، الأمر الذي رفع من روحها المعنوية بعد فشل 20 عاماً تقريباً على تأسيسها في العام 1897.
رغم ذلك، إنَّ القراءة الصّهيونيّة لتصريح بلفور في لحظة إصداره كانت تحمل العديد من المآخذ على صيغته، رغم ترحيبها به. ومن أهم المآخذ الصهيونية على رسالة بلفور:
– ورد في نص بلفور “تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، ولكن كان المطلوب صهيونياً “تأهيل أرض إسرائيل من جديد كبيت للشعب اليهودي”.
– ورد في نصّ بلفور: “ستبذل (بريطانيا) غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”، ولكن كان المطلوب صهيونياً أن “تقوم بريطانيا بكلِّ جهودها لضمان تحقيق هذا الهدف”.
– أورد نصّ بلفور شرطين لا يتحقق شيء من دونهما: “لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتّع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.
اعتبرت الحركة الصهيونيّة من خلال مآخذها على صيغة تصريح بلفور التي لم تكن بالتأكيد عشوائية أو مصادفة بريطانية، أنه لا يتضمّن وعداً أو ضمانة لإقامة دولة يهودية، بل وطن قومي غير محدّد الجغرافيا، إضافةً إلى أنَّ شروط التصريح أخرجته من نطاق الاتفاق الدبلوماسي الدولي الملزم لبريطانيا إلى شيء غير ملزم لا يصل إلى مرحلة الاتفاق الدبلوماسي بينها وبين الحركة الصهيونية، الّتي لم توجّه في الأساس رسالة بلفور إليها من الأساس.
وبالتالي، اعتبرت الحركة الصهيونيّة أنَّ تصريح بلفور هو جواب متواضع يشمل وعداً مرتبطاً بشروط تعجيزية، مرسلاً إلى شخصية خارج الإطار الرسمي للحركة الصهيونية، ناهيك بالمعارضة التي واجهها التصريح من اليهود أنفسهم، سواء اليهود المندمجون في المجتمعات الأوروبية أو اليهود المقيمون في “الييشوف” القديم في فلسطين.
أدرك حاييم وايزمن، الأب الروحي لإصدار هذا التصريح، أنَّ هناك احتمالات كبيرة لتنصّل بريطانيا منه. لذا، كان الهدف الأساسي للحركة الصهيونية هو ضمان عدم تخلي بريطاني عنه. وفي الإطار ذاته، العمل على تطويره، بحيث يلبي الرغبات والأهداف الصهيونية التي لم يتطرق إليها، بحيث يتحول تصريح بلفور من مجرد تصريح بريطاني إلى وعد بريطاني من خلال مخططات عملية ذات أجندات زمنية.
تمركزت خطة وايزمن الدبلوماسية على ما يُمكن تسميته “الدبلوماسية الشخصية”، بمعنى أخذ ضمانات شخصية من القادة البريطانيين، من خلال اللعب على الوعي الديني الاعتقادي المشيحاني لديهم من جهة حزب المحافظين البريطانيين، أمثال لويد
جورج-بلفور-تشرتشل. أما من جهة حزب العمال، فتسويق الاستيطان الصهيوني على أنه ثورة عمالية “الييشوف الجديد” في فلسطين.
وبحكم علاقاته الشخصية وفهمه الشديد لطبيعة موازين القوى في النظام السياسي البريطاني وتوازناتها، استطاع وايزمن تحويل التصريح من جواب متواضع إلى التزام أخلاقي لدى الكثير من القادة البريطانيين، الأمر الذي ساهم في تضمين تصريح بلفور في كلّ من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وأيضاً في الكتاب الأبيض البريطاني للعام 1922، اللذين شكلا القواعد الإدارية المرشدة لعمل الانتداب في العشرينيات، التي كانت الفترة الأهم في خلق واقع يهودي استيطاني جديد على أرض فلسطين لا يمكن لبريطانيا نفسها تخطيه.
نحت السياسة الصهيونية إلى خلق وقائع على الأرض بهدف ترجمة تصريح بلفور على المستوى التنظيمي كذراع استيطانية يعبر عن الصهيونية الاستيطانية ويتعامل مع حقائق الموقف في فلسطين، ناهيك باستراتيجية عدم الإصرار على الحد الأقصى من قبل الحركة الصهيونية، وخصوصاً في موضوعين رئيسيين، هما حدود الوطن القومي “الدولة”، وتصفية الأقليات اليهودية في الخارج.
في هذه الفترة، تم إنشاء أغلبية المؤسسات الصهيونية، وخصوصاً الوكالة اليهودية في العام 1922، بناء على صك الانتداب، لإسداء المشورة لسلطات الانتداب في جميع الأمور المتعلقة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، إلى جانب تعاظم الهجرة التي وصلت في فترة 1920-1926 إلى حوالى 100 ألف مهاجر تقريباً، ما يعادل ضعفي العدد الموجود قبل الانتداب.
حدثت تغيّرات سياسية مهمّة في أواسط الثلاثينيات، في ضوء اندلاع ثورة عام 1936 والأجواء التّحضيريّة للحرب العالمية الثانية، الأمر الذي منح العرب القدرة على المناورة مع بريطانيا العظمى.
في تلك الظّروف، بدأ الطاقم المهنيّ في وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات البريطانية ومكتب الانتداب في فلسطين بالبحث عن إعادة تعريف جديدة لتصريح بلفور وصكّ الانتداب من قبل بريطانيا، الأمر الَّذي خلق صداماً بين الحركة الصهيونية ومحاولات إعادة تعريف تصريح بلفور، التي كان أبرزها الكتاب الأبيض للعام 1993، الذي أصدره مالكوم ماكدونالد وزير المستعمرات، والذي تكمن أهميته في أنه شكّل السياسة الرسمية الثابتة للحكومة البريطانية، التي تمثّلت بالحد من الهجرة اليهودية، وتملّك الأراضي، والدعوة لإقامة دولة ديمقراطية يكون اليهود ثلث السكّان فيها.
ولكن مع عدم وجود قيادة سياسية فلسطينية تعمل على الدفع باتجاه تنفيذه، إضافةً إلى غياب وجود رافعة عربية تستغل الحاجة البريطانية للعرب في ظلِّ أجواء الحرب العالمية الثانية، تراجعت بريطانيا عن هذا الكتاب، ووافقت على تدويل قضية فلسطين، ما أوصل الأمور إلى قرار التقسيم في العام 1947، ومن ثم إقامة “دولة إسرائيل” على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948.
لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال القفز عن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها بريطانيا بحق الشعب الفلسطيني، ولكن من المهم لنا كشعب فلسطيني يبحث عن الانعتاق من الاحتلال وتحقيق الاستقلال والتحرير أن ندرك أنَّ الدول لا تُبنى من خلال تصريحات سياسية، بل تحتاج إلى فعل مقاوم، وبأشكال متعددة ومتكاملة، ضمن استراتيجية فاعلة ومستمرّة على الأرض، من أجل خلق واقع يؤدّي في نهاية المطاف إلى تغيير موازين القوة لمصلحة تحرير فلسطين، كامل فلسطين.