مسيرة الأعلام حول أسوار القدس.. الأهداف والخلفيات
أليف صباغ
محلل سياسي مختصّ بالشأن الإسرائيلي
منذ لحظة انتهاء معركة “سيف القدس” وحتى اليوم يبحث المستوطنون عن وسائل لاسترداد ثقتهم بأنفسهم وبجيشهم ويزدادون إصراراً على تحقيق أهدافهم.
أَخطأَ من اعتقد أنَّ معركة “حارس الأسوار”، وفق التسمية والأهداف الإسرائيلية، انتهت، فهل انتهت معركة “سيف القدس” المقابلة لها؟ هذا هو السؤال الملحّ منذ أن توقَّف قصف الطائرات الإسرائيلية، وتوقَّف في المقابل القصف الصاروخي المقاوم على تل أبيب، وحتى اليوم. لا أتحدَّث هنا عن استمرار المعركة بالأدوات السياسية، وإنما عودتها إلى الأدوات التي بدأت بها جماهيرياً، والتي تطورت لاحقاً لتأخذ شكلاً عسكرياً.
منذ أن منعت صواريخ المقاومة مسيرة الأعلام الإسرائيلية في القدس القديمة يوم 11 أيار/مايو الماضي، دخل المستوطنون في حالة الهزيمة، واعتقدوا أنهم سيعوّضون ذلك بالقوة العسكرية المدمّرة لقطاع غزة، وسيعودون بعدها براحة واطمئنان لتحقيق أهدافهم في القدس عامة، والحرم القدسي خاصَّة، ولكنَّهم فشلوا.
ومنذ اللحظة التي توقَّفت فيها الطائرات الحربية الإسرائيلية والصواريخ الفلسطينية، شعر الإسرائيليون عامة بالهزيمة، وما يزال هذا الشعور يرافقهم حتى اليوم؛ هزيمة عسكرية لخوفهم من دخول معركة برية، وعدم قدرتهم على التصدي لصواريخ المقاومة، وهزيمة شعبية أمام الرأي العام الدولي، وهزيمة معنوية أمام ذاتهم المتغطرسة التي ترى في “الجيش” الإسرائيلي قوةً عالميةً لا تُقهر، لكن المقاومة الفلسطينية، المتواضعة بقدراتها، قهرته وأذلَّته.
اليوم بالذات، في ظلِّ إصرار المستوطنين وحكومتي “إسرائيل”، الحالية والسابقة، على إجراء مسيرة الأعلام الاستفزازية حول أسوار القدس المحتلة، والرقص بأعلام الاحتلال على بوابة دمشق/ باب العمود، إنما يشيرون إلى أنّ معركة “حارس الأسوار” لم تنتهِ بعد، وهي مستمرة بأدوات أخرى، مع تأكيدهم السير بالأعلام الإسرائيلية حول الأسوار، ودخول بعضهم من باب المغاربة المؤدي مباشرة إلى ساحة البراق، بينما يدخل البعض الآخر من باب الخليل الذي سيطروا عليه منذ سنوات، ومن هناك عبر الحي الإسلامي إلى ساحة البراق، كما يؤكدون إصرارهم على تحدي الحكومة الإسرائيلية من جهة، وتحدي الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية من جهة أخرى، إضافةً إلى تحديهم الرأي العام الدولي الذي يرى في القدس القديمة منطقة محتلّة منذ العام 1967.
منذ لحظة انتهاء المعركة العسكرية وحتى اليوم، يبحث المستوطنون عن وسائل لاسترداد ثقتهم بأنفسهم وبجيشهم، ويزدادون التصاقاً بأهدافهم وإصراراً على تحقيقها. وعليه، تحدّى المستوطنون ومنظّماتهم الفاشية شروط وقف إطلاق النار، وأصروا في اليوم التالي من وقف إطلاق النار على اقتحام باحات الأقصى بحماية قوات الاحتلال، وعلى الاستمرار في هذه الاقتحامات يومياً، بغياب رد حقيقي أردني أو فلسطيني أو عربي أو إسلامي، وهدفهم أن يثبتوا لأنفسهم وللفلسطينيين وللعالم أنهم مصرون على تحقيق أهدافهم، وأنهم لا يعترفون بوجود شروط لوقف إطلاق النار، ولا يعيرون اهتماماً لأي طرف عربي أو إسلامي أو دولي.
وعندما لم تواجههم مقاومة فلسطينية ميدانية بالقدر المناسب، ولم تواجههم مواقف سياسية فلسطينية أو أردنية أو عربية وإسلامية عامة، أدركوا أنهم يستطيعون الاستمرار في ذلك، بل يمكنهم العودة لإجراء مسيرة الأعلام، وهو ما فعلوه.
من جهتها، أعادت قوات الاحتلال تقييم خططها الشرطية وتقييماتها المخابراتية، لتحقيق أهداف المستوطنين، بالتنسيق الكامل مع منظماتهم الفاشية، ومع حكومة نتنياهو المتمثلة بالكابينت السياسي الأمني المصغر، الَّذي أجّل موعد إجراء المسيرة من يوم الخميس الماضي إلى يوم الثلاثاء، لتكون أول قنبلة تتفجر في وجه الحكومة الجديدة.
لأجل ذلك، أصدرت شرطة الاحتلال تعليمات مكتوبة تؤكّد إصرارها على حماية المسيرة الاستفزازية، وتجنيد ما يقارب 3000 شرطي، بمناسبة ما يُسمى “احتفالات توحيد شطري القدس”، مرفقة ذلك بتهديدات واعتقالات وإجراءات إغلاق عدد من الشوارع ومداخل القدس إغلاقاً تاماً، من الساعة الرابعة بعد الظهر وحتى التاسعة مساء، ووصل الأمر إلى إغلاق معبر بيت لحم – القدس، وهو يشمل منع المصلين من خارج البلدة القديمة من الوصول إلى الأقصى في مواعيد الصلاة، ومنع خروجهم من باحة الأقصى أو البلدة القديمة أو وصولهم إلى باب العمود. أيّ قمع وإذلال هذا! كل هذه الإجراءات وتداعياتها المحتملة تهدف إلى إقناع أنفسهم بأنهم ما زالوا أقوياء، ولم يُهزَموا، وأنهم أصحاب السّلطة والسّيطرة على المكان.
كان لقرار الكابينت السابق بإقرار المسيرة وتأجيلها إلى يوم الثلاثاء 15 حزيران/يونيو عدة أهداف، منها تأكيد ضرورة إجراء المسيرة الاستفزازية واستعادة السيطرة على المكان. أما تأجيلها من يوم الخميس الماضي إلى يوم الثلاثاء، فهدفه الواضح وضع الحكومة الجديدة أمام امتحان صعب وتحدٍّ قد يؤدي إلى صدام دموي مع الشعب الفلسطيني، وتجدد المعركة الجماهيرية والعسكرية على حد سواء، والتي قد تتدحرج إلى حرب إقليمية، وفق بعض التوقعات.
لم تجرؤ الحكومة الجديدة على أن تعترض على قرار الكابينت السابق الذي وضعها أمام تحدٍ صعبٍ، وتشير المعلومات الفسيفسائية إلى أن الحكومة الحالية استعانت بالإدارة الأميركية لممارسة الضغط على السلطة الفلسطينية والأردنية لمنع التصعيد، وأدت مصر دوراً وظيفياً في ذلك مقابل “حماس”، لتمرير هذه المسيرة من دون رد مناسب ومواجهة ميدانية، وما إطلاق البالونات الحارقة خلال يوم الثلاثاء سوى تنفيس للمطلب الجماهيري بالرد.
وربما كان موقف عضو الائتلاف الحكومي، منصور عباس، رئيس القائمة العربية الموحدة/ الحركة الإسلامية الجنوبية، تعبيراً وانعكاساً لذلك التنسيق، حين قال: “نحن ضد كل استفزاز. مع ذلك نأمل أن تمر المسيرة من دون تصعيد!”.
عضو الكنيست، ورئيسة الكتلة الصهيونية المتدينة في الكنيست، أوريت ستروك، باركت صباح الثلاثاء 15 حزيران/يونيو موقف وزير الأمن الداخلي الجديد الجنرال عومر بارليف، وشكرته على موقفه الداعم لإجراء المسيرة، مع تأكيدها أنها تعارض الحكومة الجديدة، وأضافت: “إننا نجري هذه المسيرة منذ أربعين عاماً في يوم القدس. هذه السنة منعت المسيرة بسبب تهديدات حماس، وهو أمر خطير للغاية. لا يجوز أن نمنح حماس القدرة على أن تدير إسرائيل، ولا يجوز أن نطوي الأعلام”.
الأهمّ من كلّ هذا وذاك هو الإجابة عن السؤال التالي: ماذا لو ردَّت المقاومة على ممارسات الاحتلال في القدس؟ هل كانت المواجهة ستتطور إلى معركة عسكرية مجدداً؟ ربما هذا هو بالضبط السيناريو الذي تتمناه قوات الاحتلال الإسرائيلي بقيادة أفيف كوخافي، وهي تهدف إلى استكمال مهمة تدمير البنية التحتية للقطاع بعد مراجعة التجربة التي لا تزال ساخنة، وبعد أن تزودت بالقنابل والصواريخ التي كانت تنقصها. وعليه، فقد استعدّت لذلك، كما صرح كوخافي.
لكن، في المقابل، قد لا تكون الحكومة الجديدة راغبة في التصعيد، باعتبار أن القرار هو قرار الحكومة السابقة، وأنه يهدف إلى توريطها في حرب لم تستعدّ لها سياسياً، وإن استعدّ لها “الجيش” عسكرياً. وقد تكون الحرب المحتملة مستنقعاً تتورط فيه الحكومة الجديدة، كما خطط لها نتنياهو.
لا بدّ من أن نذكّر بأنّ النقاشات التي تحصل بين القوى الصهيونية تشير إلى انقسامهم حول موقفين أساسيين؛ الأول يقول إن التراجع عن إجراءات استفزازية قد تلهب المنطقة ليس ضعفاً، وانما هو إجراء مؤقت يمكن استبدال أدوات سياسية به، تحقّق الهدف نفسه بهدوء، ومن دون مواجهة، بينما يقول أصحاب الموقف الآخر إنَّ الحزم واستخدام القوة العسكرية ضد كلّ من يعترض على السياسة الإسرائيلية هما الوسيلة الأفضل للتعامل مع العرب عامة، ومع الفلسطينيين خاصة، وأن العرب لا يفهمون إلا لغة الحزم والقوة.
لا شكَّ في أن نفتالي بنيت من أنصار الموقف الثاني. وقد صرَّح عن ذلك في خطابه الأخير أمام الكنيست قبيل استلام مهمة رئاسة الحكومة، فقال: “أي توليفة حكومية لن تمنعنا من القيام بما يجب للدفاع عن موقفنا”، وأضاف: “آمل أن يستمر الهدوء في الجنوب، ولكن إذا ما اختارت حماس المعركة، فإننا سنواجهها بجدار حديدي”، في إشارة إلى مقال جابوتنسكي الذي يتحدث عن “الجدار الحديدي”، باعتباره القوة العسكرية المتعاظمة الضرورية لإخضاع العرب، وفق جابوتنسكي نفسه.
إذا ما أخذنا بالاعتبار أن استراتيجية الحركة الصهيونية وتكتيكها، منذ نشأتها ولغاية اليوم، قائمة على نظرية “حساب المخاطر”، أي أنهم يتراجعون عند وجود الخطر، ويتقدمون عندما تحين الفرصة، بغياب الخطر، لتحقيق أهدافهم، فيتوجب علينا أن نتوقع مزيداً من الغطرسة، ومزيداً من الطموح الصهيوني لتحقيق أهداف إضافية، ما لم تجد من يصدها ويواجهها.
لا يجوز لأحد أن ينسى أن سكّان الشيخ جراح مهددون بالطرد، وكذلك سكّان حي باب الهوى وبلدة سلوان وأحياء عربية أخرى في القدس، وأن نفتالي بينت مُطالَب بأن يثبت انتماءه إلى اليمين، وإلى المستوطنين بالذات، ومطالب بأن يثبت أنَّه ليس أقلّ دموية من نتنياهو، وأنَّ نجاح المستوطنين في تمرير المسيرة، بالتنسيق من جهة، وباستخدام القوة الكبيرة من جهة أخرى، سيفتح شهيَّة المستوطنين لطرد السكّان الفلسطينيين من مساكنهم في الأحياء العربيّة، كما يخطّطون.
إنّها الحركة الصّهيونيّة وقواها الفاشيّة وأيديولوجيتها التوسّعية، والتي ما إن تحقّق هدفاً حتى تحدّد أهدافاً أخرى لتحقيقها. الواقع الذي نعيشه منذ عقود لا يبقي مجالاً للشك في ذلك. ألم يحن الوقت لنتعلم الدرس القائل إنَّ سياسة استرضاء المتغطرس لا تزيده إلا غطرسةً وشعوراً بالانتصار، وتفتح شهيّته على انتصارات إضافيّة؟