حِيل نتنياهو لإفشال “حكومة التغيير”.. اللعبة لم تنتهِ
أليف صباغ
محلل سياسي مختصّ بالشأن الإسرائيلي
يتفق الجميع على أن الأسبوع المقبل سيكون حافلاً بالأحداث الخطيرة والمفصلية في الصراع بين تيارين صهيونيين، لديهما رؤى متباينة لمستقبل كيانهم.
أسبوع مفصليّ ينتظر بنيامين نتنياهو ومعارضيه، على حد سواء. فهل تنجح المعارضة الصهيونية في إقامة “حكومة التغيير”، وتُنهي بذلك حقبة نتنياهو في الحكم، بعد 12 عاماً متتالية في رئاسة الحكومة؟ أم تفشل، ويذهب الجميع إلى سيناريو جديد، أو انتخابات خامسة؟
لا أحد يستطيع أن يعطي جواباً قاطعاً، بمن في ذلك يائير لبيد ونفتالي بِنيت ونتنياهو أنفسهم. لكنْ، يتفق الجميع على أن الأسبوع المقبل سيكون أسبوعاً حافلاً بالأحداث الخطيرة والمفصلية في الصراع بين تيارين صهيونيين، لديهما رؤى متباينة لمستقبل كيانهم، المرتبط قبل كل شي بمنهجية الحكم وكيفية تسوية الصراعات الداخلية فيه، وعلاقاته بالإدارة الأميركية.
كي لا نناقش هذا الموضوع من جديد، أُذكّر بمقال سابق، شرحت فيه ثلاث قضايا مركزية في هذا الصراع. الأولى هي الموقف من فلسطينيي الـ48: هل هم أعداء، أم مواطنون متساوون؟
الثانية هي العلاقة شبه التناحرية بين اليهود الصهاينة العلمانيين واليهود الحريديم في “إسرائيل”.
الثالثة هي نهج الديموقراطية والشفافية، في مقابل نهج حكم الشخص الكاريزماتي، حتى وإن كان فاسداً، مثل نتنياهو، على حساب نهج الحكم المؤسساتي والدولة العميقة.
وعليه، ليس صحيحاً أن الصراع الصهيوني الداخلي هو على الموقع أو المنصب، إنما هو صراع بين نهجين، تعود جذوره إلى الصراعات بين التيارات الصهيونية منذ نحو مئة عام ونيف. وجوهر هذا التناحر يتمحور حول كيفية إدارة الصراع بين الحركة الصهيونية الاستيطانية من جهة، والحركة الوطنية الفلسطينية وأصحاب البلاد الأصليين من جهة أخرى. لكن الأهمّ هو صراع على طابع الحكم وشروط ضمان بقاء الكيان، بين تيار صهيوني علماني ليبرالي يقوده لبيد اليوم، وتيار صهيوني متشدِّد ومتحالف مع القوى الدينية ذات النزعة الفاشية، يقوده نتنياهو، المتحالف أيضاً مع تيار يهودي متشدِّد وغير صهيوني، لكنه غيبي في عقيدته، ومُعادٍ لليبرالية والعلمانية، إلى حدّ التناقض التناحريّ.
إذاً، يُفضَّل وصف الحكومة المرتقبة، برئاسة بِنيت ولبيد، بحكومة معسكر التغيير، وليس “حكومة اليسار”، كما يصفها نتنياهو، عن قصد، للانتقاص منها وجعلها فزّاعة في وجه القوى الصهيونية، التي تكره اليسار، في طبيعتها، علماً بأن لا علاقة للبيد أو بِنيت بمفهوم اليسار المتعارَف عليه. إنها حكومة يمين، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، لكنّ مركِّباتها متَّفِقة، كل منها لأسبابه الخاصة، على ضرورة إطاحة بنيامين نتنياهو، شخصاً ونهجاً في الحكم. وهنا، يتوجَّب أن نقف عند السؤال: لماذا؟ وكيف اجتمع كل هؤلاء على هذا الهدف المشترك؟
ثم نسأل: إنْ تحقَّقَ الهدف المشترك، فماذا يتبقّى لمكوِّناتها من أهداف مشتركة قادرة على المحافظة على وحدة هذه الحكومة؟
جواباً عن السؤال الأول، تتَّفق جميع القوى المناهضة لنتنياهو، بما في ذلك الإدارة الأميركية الديموقراطية، على أن نهجه يشكّل خطراً على بقاء “إسرائيل”. وإذا تم التساهل مع نتنياهو في ملفات الفساد التي تواجهه، وسُمح له بتعديل قوانين تحميه من القضاء، فذلك يشكّل خطراً وجودياً على “إسرائيل”، آخذين عِبْرة من دول عظمى سقطت من الداخل، قبل أن تسقط من الخارج: من الإمبراطورية الرومانية في التاريخ القديم، والاتحاد السوفياتي في نهاية القرن العشرين. لذلك، يرفع كل هؤلاء شعاراً واحداً يقول: “يجب إنقاذ إسرائيل من نفسها”، أو “من نتنياهو”.
أمّا السؤال الثاني، فهو: ما هي المُعَوِّقاتُ التي يمكن أن تواجه لبيد وبِنيت في الطريق إلى كسب ثقة الكنيست من أجل تشكيل حكومة التغيير؟ وماذا يفعل نتنياهو لإفشال هذه الحكومة مسبَّقاً؟
يعمل نتنياهو في ثلاثة اتّجاهات لإفشال حكومة التغيير:
الأول، يتمثّل بتعزيز الصفوف داخل “الليكود”، لمنع حدوث أيّ تصدع في الموقف، وكذلك مع حلفائه من الحريديم والمستوطنين الفاشيين، على اختلاف أماكنهم داخل حدود أراضي الـ48، أو في المناطق المحتلة عام 67.
يهدِّد نتنياهو أيَّ عضو داخل “الليكود” يمكن أن يتحدّاه على رئاسة الحزب، أو حتى التلميح إلى ذلك. وفعل ذلك طوال سنين طويلة داخل “الليكود”، حتى تخلَّص من كل منافسيه، بمن في ذلك من وُصِفوا، تحت جناحي مناحيم بيغن، بـ”أمراء الليكود” وبينهم بيغن وإيهود أولمرت وروني ميلو ودان مريدور وتسيبي لفني وليمور لفنات وآخرون. وأشارت إلى ذلك ليمور لفنات، التي تركت “الليكود” مؤخَّراً، بوضوح، في مقابلتها الأخيرة مع موقع “معاريف”، يوم 3 حزيران/يونيو الجاري.
بالإضافة إلى ذلك، اجتمع نتنياهو، صباح الخميس الماضي، برؤساء الكتل المتحالفة معه، كما اجتمع برؤساء المستوطنين، لحثِّهم على النزول إلى الشارع، وممارسة الضغط على أعضاء كتلة نفتالي بِنيت (يمينا) بالذات، والتظاهر أمام بيوتهم وبيوت أعضاء آخرين من كتلة “أمل جديد”، حتى وصلت الضغوط إلى تهديدات بالقتل، الأمر الذي أدّى إلى وضع عدد من أعضاء الكنيست، من معسكر “التغيير”، بمن في ذلك لبيد وساعر وبِنيت، تحت الحماية الأمنية. وجرى الأمر نفسه مع عدد من الإعلاميين، اليهود الصهاينة، المناهضين لنهج نتنياهو.
أمّا الاتِّجاه الثاني، فيتمثَّل بوضع العراقيل الكثيرة أمام “حكومة التغيير”، وأوّلها فوزها برئاسة الكنيست، لأن رئيس الكنيست يتمتَّع بصلاحية تقديم أيّ تصويت في الكنيست، أو تأجيله. واستطاع رئيس الكنيست، الليكودي الحالي، منعَ التصويت على مشروع تعديل القانون الذي يمنع أيَّ عضو كنيست من الترشح لرئاسة الحكومة، إنْ قُدِّمت ضدَّه في المحكمة لوائحُ اتهام. ويمنع مثل هذا التعديل بنيامين نتنياهو من العودة إلى رئاسة الحكومة في المستقبل، ويخلق، في طبيعته، صراعاً داخلياً في “الليكود” بشأن خلافة نتنياهو. كما يخلق انشقاقات داخل معسكر نتنياهو الأوسع. إذاً، يُخرج هذا التعديل بنيامين نتنياهو من رئاسة الحكومة، ويخلق اصطفافاً سياسياً جديداً.
لقد حاول “معسكر التغيير”، منذ صباح الخميس الماضي، أن يحصل على منصب رئيس الكنيست، بعد توقيع 61 عضواً على هذا المطلب. لكنّ انسحاب أحد الأعضاء من كتلة بِنيت، بسبب الضغط الذي مورس عليه، أفشل هذا المسار حتى الآن. فهل يُقْدِم أعضاء الكنيست من “القائمة المشتركة” على سدّ هذا النقص؟ يبدو أن بعضهم مستعدٌّ لذلك. لكنَّ بِنيت وساعر، بسبب مواقفهما العنصرية، وربما خشيةً من فقدان صدقية حزبيهما في نظر الجمهور العنصريّ لكلّ منهما، ليسا مستعدَّين للقَبول بهذا الدعم!
من خلال منصب رئيس الكنيست، يعمل نتنياهو على إعاقة جلسة الكنيست لنيل الثقة لمدة أسبوع أو أكثر قليلاً، علّ وعسى يستطيع، خلال ما تبقّى له من وقت، زعزعةَ أركان “حكومة التغيير”.
في الوقت ذاته، يعمل نتنياهو على البحث عن ملفات فساد، أو شبهات فساد، في صفوف الطرف الآخر. وبدأ عمله في التشكيك في علاقات ليبرمان بأصحاب مليارات في الداخل أو الخارج، والكشف عن حسابات ابنته في البنك، ووضعها تحت سؤال: من أين لك هذا؟ ولاسيما أن ليبرمان سيصبح وزيراً للمالية، وفق تقاسم الوزارات في حكومة التغيير. ولا غريب في أن يتم البحث، تباعاً، عن ملفات أخلاقية لأعضاء “حكومة التغيير”، أو أفراد عائلاتهم.
لَمْ يَمضِ يوم واحد على إعلان لبيد وبِنيت تمكنهما من تشكيل حكومة، حتى طالبهما “الليكود” بالكشف عن كل الاتفاقيات التي عقداها مع الأحزاب المركِّبة لـ”حكومة التغيير”، بتفاصيلها. قد يُفاجَأ الجمهور، في الأيام القادمة، بأدوات أخرى يستخدمها نتنياهو ضد خصومه. لا توجد لديه أي حدود تمنعه من ذلك.
ثالثاً، على الصعيد الخارجي، قد نشهد توترات أمنية مع “العدو الخارجي”، وبدأت ملامحها واضحة ضد إيران، عبر عمليات تخريبية في البحر، أو في البر الإيراني، مثل إحراق سفينة حربية حتى إغراقها في بحر عُمَان، وإشعال حريق في مصفاة للبترول، وأعمال غيرهما في أماكن أخرى، أو ضد المقاومة في غزة ولبنان.
وليس سرّاً أن قائد الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، أعطى الأوامر للجيش بتعبئة المدافع بالذخيرة، استعداداً لجولة إضافية ضد المقاومة في قطاع غزة. كما أن وزير الأمن بيني غانتس طلب من الولايات المتحدة ذخيرة جديدة بمبلغ مليار دولار، تشمل قنابل ثقيلة جداً، وقذائف لـ”القبّة الحديدية” نَفَدَت من المخازن في “إسرائيل”، أو كادت تنفُد.
بالإضافة الى ذلك، يشهد الداخل الفلسطيني حملة اعتقالات وحشية وعشوائية ضد الشُّبّان الفلسطينيين، الذين شاركوا، أو لم يشاركوا، في المظاهرات خلال أيام العدوان على غزة. يهدف هذا التصعيد الى إرهاب الفلسطينيين في الداخل، ويُثبت للشارع اليهودي، من جهة أُخرى، أن حُكم نتنياهو لا يزال قوياً. كما يمكن أن تشكّل هذه الاعتقالات تحضيرات ضرورية للمعركة المقبلة.
بالإضافة إلى هذا وذاك، نشهد توتيراً متزايداً في القدس المحتلة: اقتحامات يومية للمستوطنين للحرم القُدسي، بحماية الشرطة وحرس الحدود. وهي رسالة إلى حلفاء نتنياهو، من المستوطنين ومنظمات “جبل الهيكل” المزعوم، مفادها أنه لا يزال ملتزماً أهدافَهم. كما نشهد توتيراً للأجواء في أحياء الشيخ جراح وسلوان وبطن الهوى، وغيرها من الأحياء العربية في القدس المحتلة.
مواجهة عسكرية؟
لنفترضْ أن لبيد وبِنيت استطاعا عبور كل المُعَوِّقات، وكسبت حكومتهما ثقة الكنيست، فهل يسلّم نتنياهو وحلفاؤه بنتيجة الحسم الديموقراطي؟
الجواب هو لا، لأن القوى الفاشية المتحالفة مع نتنياهو لا تقبل بالحسم الديموقراطي إلاّ إذا كان في مصلحتها. ولأن زعماء هذه القوى، مع نتنياهو، يشعرون بأنهم سيفقدون السلطة إلى أمد طويل. ولأن نتنياهو، وفق تصورهم، هو أفضل من يقودهم ويمثِّلهم أمام العالم، بسبب قوة شخصيته وقدرته على المناورة والخداع في مواجهة زعماء العالم، ونتيجة التزامه الأهداف المشتركة. ولأن نتنياهو مقتنع، بصورة مطلقة، بأنه إذا فقدَ السلطة، أو فقدَ رئاسة الكنيست، فتعديل القانون الآنف الذكر، سيكفي وحدَه لمنعه من العودة إلى رئاسة الحكومة، حتى لو نجح لاحقاً في إسقاط “حكومة التغيير”.
هنا، لا بدَّ من التذكير بأن المحكمة العليا الإسرائيلية ستعود إلى مناقشة قضية طرد السكان العرب من منازلهم في حيّ الشيخ جراح يوم الخميس القادم، 10 حزيران/يونيو. فهل ستتخذ قراراً بطردهم من منازلهم؟ وما هي تداعيات ذلك؟ هل سنشهد إعلان نتنياهو حالةَ طوارئ في القدس المحتلة، وبالتالي مواجهات عنيفة قد تتدحرج إلى مواجهة عسكرية مع المقاومة الفلسطينية في القطاع، وقد يتدحرج هذا الى حرب إقليمية لا ترغب فيها الولايات المتحدة، ويكون نتنياهو قد ورَّطها فيها رُغماً عنها؟