هل غيّرت “سيف القدس” الاستراتيجية الأميركية في المنطقة؟
شارل أبي نادر
خبير في الشؤون الاستراتيجية
ليست ثمة مبالغة في القول إن ما فرضته المقاومة الفلسطينية في غزة من معادلات سيكون له تأثير جذري في استراتيجية واشنطن في المنطقة.
مثلما تفاجأت “إسرائيل” بالمستوى العسكري الَّذي وصلت إليه المقاومة الفلسطينيّة في غزة، لم تكن واشنطن أيضاً تتوقع أن تسير المواجهة الأخيرة بين “إسرائيل” وفصائل المقاومة بهذا الشّكل المتقارب تقريباً، ما لم يكن في القدرات، فعلى الأقل في النتائج، إذ وصلت صواريخ المقاومة إلى كلّ جغرافيا الكيان، تماماً كما وصلت صواريخ القاذفات الإسرائيلية إلى كلّ قطاع غزة، وأمضى أكثر من ثلثي المستوطنين الإسرائيليين فترة العدوان في الملاجئ، تماماً كما أمضاها كلّ سكان غزة بين الملاجئ أو على أدراج منازلهم، لتنتهي المواجهة – بحسب الجميع، وخصوصاً الأميركيين – بتغيير شبه كامل في عناصر الصراع في فلسطين المحتلة، بعد أن أدخلت المقاومة الفلسطينية إليه عدة معادلات جديدة، ستكون حتماً الموجّه الرئيس لهذا الصّراع بعد هذه المرحلة.
هذه المعادلات التي تتعلَّق بتحييد استهداف المدنيين لدى طرفي الصراع، أو بتثبيت المقاومة الفلسطينية نفسها (بالنار والدم) الطرف الوطني الوحيد الأقوى موقفاً والأكثر تمثيلاً وتأثيراً وفعالية في الساحة الفلسطينية، أو بمعادلة الردع التي فرضتها هذه المقاومة بصواريخها الصادمة وأنفاقها الأخطبوطية المحمية، أو بقادتها وكوادرها ومقاتليها الأشداء، لن تكون تداعياتها محصورة في تغيير عناصر الصراع داخل فلسطين فحسب، بل ستمتدّ تأثيراتها حتماً خارج الحدود الفلسطينية أيضاً، لتصل إلى الإقليم، وبالتالي تصبح النقطة الأكثر تأثيراً في تغيير استراتيجية أكثر من دولة فاعلة في المنطقة، وبطبيعة الحال، استراتيجيّة الولايات المتحدة الأميركيّة في المنطقة.
في الواقع، ليست ثمة مبالغة في القول إن ما فرضته المقاومة الفلسطينية في غزة من معادلات سيكون له تأثير جذري في استراتيجية واشنطن في المنطقة، إذ إنَّ غالبيّة استراتيجيات الدول في أي منطقة تقوم بالاستناد إلى دراسة وقائعها العملية والفعلية الجيوسياسية من جهة، وموقع اللاعبين الأساسيين فيها وقدراتهم وعلاقاتهم وأهدافهم من جهة ثانية.
وهنا بالتحديد، إذا تكلّمنا عن استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط، فمن الطبيعي أن يؤدي أي تغيير جذري في قدرات الأطراف المعنيين في المنطقة دوراً محركاً لتلك الاستراتيجية، وخصوصاً إذا كان الموضوع يتعلّق بأمن “إسرائيل”، وبعناصر قوتها وصراعها مع الأطراف المناوئة لها بشكل خاصّ.
الاستراتيجية الأميركية الحالية التي أصبحت بعد عملية “سيف القدس” معرضة للتغيير، والتي كان موقع “الميادين نت” قد أشار إليها سابقاً في مقال بعنوان “هل تنسحب واشنطن من الاشتباكات الجانبية وتتفرّغ للصين وروسيا؟“، كانت تقوم على أساس الانسحاب من دور رأس السهم في المنطقة، وتسليمه لـ”إسرائيل” كرأس سهم أساسيّ بديل منها، لتقوداً محوراً من الدول المطبعة معها؛ محوراً معادياً لإيران ولكلّ أطراف محور المقاومة.
وكان الهدف هو التفرغ لمواجهة الصين وروسيا، بعد التخلي تباعاً عن الملفات الجانبية في المنطقة، على اعتبار أنّ لـ”إسرائيل”، مع مجموعة المطبّعين، القدرة على قيادة هذا الدور وتمثيله وأدائه، نظراً إلى ما تملكه تلك الأطراف معاً من قدرات ماليّة ضخمة وأسلحة كانت واشنطن جاهزة لدعمها وتحديثها وزيادة فعاليتها، وبالثمن المناسب كالعادة.
عملياً، كانت المنطقة بدأت تشهد أولى المراحل والمحطات الجدية لتنفيذ تلك الاستراتيجية. وكانت باكورة هذه المحطات تتمثل في نقل “إسرائيل” من المنطقة الأوروبيّة للوحدات الأميركية إلى منطقة الشرق الأوسط للوحدات الأميركيّة، ليبدأ الإعلان تباعاً عن التّحضير لمناورات عسكريّة مشتركة برعاية “إسرائيل”، تضم بعض الدول المطبعة معها أو كلها، الظاهرة منها أو المخفية، ولتتحرّك لاحقاً خطة أميركية تقوم بسحب منظومات “الباتريوت” من السعودية، ويبدأ التحضير الإعلامي والدبلوماسي عن استعداد “إسرائيل” لوضع منظومات دفاع جوي (“ثاد” أو “باتريوت 3” المتطورة أو “القبة الحديدية”) مكان “الباتريوت” الأميركي، بهدف حماية العمق السعودي والمنشآت الحيوية من صواريخ “أنصار الله” اليمنية ومسيَّراتها.
المحطة الأخرى بدأ تنفيذها عملياً، وهي انسحاب الوحدات العسكرية الأميركية من أفغانستان تدريجياً، ليكتمل هذا الانسحاب في نهاية أيلول/سبتمبر من العام الحالي، وليتقدم الحديث عن بدء تحضير الخطط العملية لتقليص تلك الوحدات (الأميركية) في عدة قواعد منتشرة في الدول الخليجية، ودائماً على أساس أن هناك تحالفاً إسرائيلياً – خليجياً اكتمل مبدئياً، وأصبح جاهزاً لاستلام المهمة؛ مهمة مواجهة إيران ومحور المقاومة وحماية الخليج منه.
حتى الآن، كان كلّ شيء يسير بحسب الخطّة المرسومة أميركياً، والتي تتضمن “إسرائيل” كعنصر رئيسي، والدول الخليجية القريبة منها، بصفتها أطرافاً ثانوية في القرار، وأساسية في التمويل، إلى أن كانت عملية “سيف القدس”، والتي كانت أشبه بصدمة لأطراف هذه الاستراتيجية، وبدأت الأسئلة الحساسة تدور في ذهن هؤلاء الأطراف:
– كيف يمكن لـ”إسرائيل” إدارة الدور بدلاً من الأميركيين؛ دور مواجهة إيران ومحور المقاومة، في الوقت الَّذي أرعبت صواريخ غزة المحاصرة الكيان كلّه، ودفعت المستوطنين إلى البقاء في الملاجئ، وظهرت القبة الحديدة التي كانت مرشّحة لحماية السعودية والإمارات من صواريخ “أنصار الله” عاجزة عن التقاط نسبة متوسطة من صواريخ المقاومة الفلسطينية؟
– إذا كانت غزة المحاصرة استطاعت الصمود والثبات وفرض المعادلات الصادمة بصواريخها المتواضعة، كيف سيكون الوضع في حال فتحت أغلب أطراف محور المقاومة، وعلى رأسها إيران، نار جهنم على الكيان بالصواريخ الدقيقة والمتعددة المديات والحشوات المتفجّرة القادرة على التدمير العنيف؟
ثم أتى كلام قائد الوحدات المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، الجنرال ماكينزي، أخيراً، عن أهمية منطقة الشرق الأوسط وحساسيتها بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية، وليتكلم بصراحة عن خشيتهم من دخول الصين وروسيا على الخطّ، بعد تقليص تواجدهم أو بعد اكتمال انسحابهم، فالقواعد الصينية المرتقبة، بحسب ماكينزي، جاهزة للانتشار بسرعة فائقة، والأسلحة الروسية التي ستتدفّق إلى دول المنطقة، وبأسعار مناسبة، بدأت تتجهّز في بواخر النقل الروسية، ووجهتها الشّرق الأوسط.
ألم يكن ماكينزي يعرف كلّ ذلك عن أهمية النفوذ والتواجد في المنطقة أو عن قدرة الصين وروسيا على الدخول السريع، وهو قائد المنطقة المركزية للوحدات الأميركية؟ لماذا لم يتطرَّق إلى هذه المعطيات سابقاً، قبل أن تفصح إدارته في واشنطن عن نيّتها تقليص وجودها في المنطقة؟ لماذا لم يعلن عن هذه المخاوف، وفي أكثر من جلسة استجواب دورية، أمام لجان الدفاع والخارجية في الكونغرس؟ وماذا حصل ليدخل على الخطّ فجأة، ويتذكّر حساسية الشرق الأوسط وأهميّته؟
طبعاً، السّبب واضح وضوح الشمس. التّوقيت أكّده، والمعطيات ثبّتته. إنه التغيير الدراماتيكي الّذي فرضته المقاومة الفلسطينية في غزة، والذي أجبر الجميع على إعادة حساباتهم. ربما غداً، وقبل حلول الموعد النهائي للانسحاب من أفغانستان في أيلول/سبتمبر القادم، سيجد ماكينزي، وبعد تنفيذ “طالبان” عملية تفجير أو أكثر ضد الأجهزة الأمنية أو العسكرية الأفغانية، تكون دموية كالعادة، وبالتنسيق الضمني طبعاً معه، سيقول إنَّ ثمة خطراً على وحدة الدولة الأفغانية والحكومة في الانسحاب كاملاً من أفغانستان، وإن ثمة معطيات عن تحضّر الإرهاب للتمدّد فيها، وعليهم وقف الانسحاب أو تعليقه حالياً، وربما يقترح، وعلى وجه السّرعة، إعادة بعض الوحدات المنسحبة أو غيرها، ليعود الوضع إلى ما كان عليه قبل عملية “سيف القدس”.