الخلاصات العسكرية لمعركة “سيف القدس”
محمد منصور
كاتب مصري وباحث فى الشؤون العسكرية.
المثير للاهتمام، في ما يتعلّق بالمواجهات، أنها تضمّنت مجموعة متعددة من التكتيكات والأساليب الهجومية، والتي لا علاقة مباشِرة لها بسلاح الصواريخ.
ربما كان من المنطقيّ أن تحوز صواريخ فصائل المقاومة الفلسطينية الحيِّزَ الأكبر من الاهتمام، خلال أيّ محاولة لتحليل ـ وتحديد ـ الدروس المُستفادة من أحد عشر يوماً من المواجهات الجوية التي شهدتها أجواء فلسطين المحتلة. لكنّ المثير للاهتمام، في ما يتعلّق بهذه المواجهات، أنها تضمّنت مجموعة متعددة من التكتيكات والأساليب الهجومية، والتي لا علاقة مباشِرة لها بسلاح الصواريخ، وتمّ استخدامها وتطبيقها من جانب فصائل المقاومة، على الرَّغم من أن هذه الجولة من المواجهات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي لم تتضمّن حرباً برية، كما حدث في مناسبات سابقة.
قبل أن نتناول هذه الأساليب، لا بدَّ من نظرة سريعة إلى ملف، يُعتبر من أهمّ الملفات التي تم فتحها خلال هذه المواجهة، ألا وهو ملف منظومات “القبّة الحديدية” الدفاعية ضد الصواريخ، وكيفية قياس مدى نجاحها في أداء مُهماتها، وهل نجاحها يرتبط فقط بكمية الصواريخ التي قامت المقذوفات الاعتراضية، من نوع “تامير” الخاصّة بهذه المنظومة، بإسقاطها، أم أن قياس هذا النجاح يحتاج إلى أن نضع في الاعتبار التكلفةَ المالية التي تكبّدتها “إسرائيل”، بصورة عامة، من أجل إدامة تشغيل هذه المنظومة.
القُبّة الحديدية.. الأداء الميداني ومتطلِّبات إعادة التقييم
في الثاني عشر من كانون الثاني/يناير الماضي، أعلنت وزارة الأمن الإسرائيلية اختبارها مجموعةً من التحديثات التي تم إلحاقها ببطاريات منظومة “القُبّة الحديدية”، وذلك عبر تجارب بالذخيرة الحية تمّت بالتعاون بين عدة أقسام تابعة للوزارة، منها مديرية البحوث والتطوير الدفاعي، ومنظَّمة الدفاع الصاروخي، إلى جانب شركة “رافاييل” المصنِّعة لهذه المنظومة. حينها أعلنت الوزارة أن المنظومات المحدَّثة اعترضت خلال التجارب كلَّ الأهداف المعادية، وأن هذه التحديثات تضمَن قدرة البطاريات، الموجودة حالياً في الخدمة، على مواجهة جميع التهديدات الجوية، بما في ذلك التهديدات المستحدَثة، مثل الطائرات الصغيرة من دون طيار، والذخائر الجوّالة.
وتشير التقديرات إلى أن التحديثات، التي تمّت على هذه المنظومات، شملت تحديث الرادارات الرئيسَةِ لها، وتحسين تبادل البيانات بين مِنَصّات القيادة والصواريخ الاعتراضية عَقِبَ إطلاقها.
هذه التحديثات كانت تحمل في طيّاتها مخاوف إسرائيلية جِدّية من مشكلة تكرَّرت عدة مرات خلال السنوات الماضية، وتكرَّرت أيضاً خلال الأيام القليلة الماضية، ألا وهي وقوع صواريخ إسرائيلية غير منفجرة في قبضة الفصائل في غزة، عن طريق الخطأ. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، عثرت الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة على أجزاء سليمة خاصّة بأحد صواريخ منظومة “القبّة الحديدية” من نوع “تامير”، وتحديداً الجزءَ الذي يحتوي على إلكترونيات التحليق والرادار النَّشِط الخاصّ بهذا الصاروخ، وهو الرادار المسؤول عن تفجير الشحنة المتفجرة الخاصة بالصاروخ في حالة وقوع المقذوف المستهدَف تدميرُه في مرمى أشعة الرصد الخاصة بالرادار. صواريخ “تامير” مزوَّدة بآلية للتدمير الذاتيّ في حالة عدم إصابتها أيَّ هدف، لكنّ هذه الآلية لا تعمل جيداً، على ما يبدو، في بعض الأحيان، وهو ما مثَّل فرصة ذهبية للفصائل الفلسطينية وحلفائها، من أجل دراسة خصائص صواريخ هذه المنظومة عن قرب، وهذا الأمر ظهرت فوائده، بصورة أو بأخرى، في مواجهات الأيام الماضية.
هذه المشكلة تكررت بالنسبة إلى “إسرائيل” عشراتِ المرّات سابقاً، وفي بعض هذه المرات كان الموضوع يتعلَّق بأهم منظومات دفاعية يمتلكها “الجيش” الإسرائيلي، مثل منظومات الدفاع ضد الصواريخ المتوسطة المدى من طراز “مقلاع داوود”. ففي منتصف عام 2017، أطلقت البطاريات الإسرائيلية من هذه المنظومة صاروخين اعتراضيَّين من نوع “ستانر” نحو المنطقة الغربية في سوريا، من أجل اعتراض صاروخ باليستي تكتيكي قصير المدى من نوع “توشكا”، أطلقه الجيش السوري في اتجاه أحد مواقع المجموعات المسلحة. وعلى ما يبدو، فإن كِلا الصاروخين لم يتمكنْ من اعتراض الصاروخ السوري، وقاما بتفعيل آلية التدمير الذاتي، لكنّ واحداً منهما، على الأقلّ، لم يتم تدميره، ووصل إلى الأرض سليماً، وهو ما شكَّل كارثة تكنولوجية بالنسبة إلى تل أبيب، نظراً إلى أن هذا النوع من الصواريخ الاعتراضية متقدمٌ للغاية، ووقوعه في حوزة الجيش السوري سيمكّن دمشق وحلفاءَها من تفكيك أسرار هذا النوع من الصواريخ، وخصوصاً آليةَ الاشتباك والتوجيه الخاصةَ به.
حتى في المواجهة الأخيرة بين فصائل المقاومة وسلاح الجو الإسرائيلي، فَقَدَ هذا الأخير نوعاً جديداً من الصواريخ المتطوِّرة، بحيث عثرت فصائل غزة على صاروخين سليمين من نوع “ميخوليت”، وهي صواريخ جو – أرض، تتسلَّح بها الطائرات الإسرائيلية من دون طيّار من نوع “هيرميس – 450″، علماً بأن عدة صواريخ من هذا النوع تمَّ العثور عليها سليمةً بعد هبوط “اضطراريّ” لطائرة من هذا النوع جنوبيَّ لبنان في آذار/مارس 2018.
إذاً، يمكن القول، مما سبق، إن آلية عمل صواريخ منظومات “القبّة الحديدية” الاعتراضية باتت معلومة، على نحوٍ أو آخر، لفصائل غزة وحلفائها على المستوى الإقليمي، لكن أداء هذه المنظومة خلال الاشتباك الأخير بصورة عامة، ألقى الضوء على الجانبين العملياتي والمادي من جوانب تشغيلها. فالأغلبية الساحقة من أنواع الصواريخ الفلسطينية، ليست موجهة على نحو دقيق عن طريق آليات التوجيه المتعارَف عليها في منظومات الصواريخ أرض – أرض مثل التوجيه الراداري السلبي أو الإيجابي، أو التوجيه الليزري، أو حتى التوجيه عن طريق نظام تحديد المواقع العالمي، بل يتم توجيهها نحو الهدف عن طريق تحديد زاوية إطلاق قوسيّ، وفق الآليات نفسها لتحديد اتجاه قذائف المدفعية. وفي هذه الحالة يكون التهديف تقريبياً وذا هامش خطأ كبير، وربما كانت كلها عوامل تشير إلى أن فرص بطاريات “القبّة الحديدية” في إسقاط الصواريخ المقتربة تُعتبر كبيرة نسبياً، لكنّ الجولة الأخيرة أثبتت أن الوضع ليس على هذا الشكل.
إن خبرة طواقم الصواريخ الفلسطينية – مع مرور الزمن وتكرار عمليات إطلاقها – سمحت للفلسطينيين، بصورة كبيرة، بتحديد أقرب الزوايا الممكنة، والتي تضمن سقوط الصواريخ داخل المدن التي تستهدفها، إلى جانب أن احتمال إصابة الأهداف المطلوبة تزايدَ في المواجهة الحالية بفعل لجوء الفصائل إلى إطلاق أعداد كبيرة من الصواريخ – تصل في بعض الإحيان إلى مئة صاروخ في غضون ثلاث دقائق فقط – في أوقات متزامنة، ومن خلال زوايا منخفضة قدر الإمكان. وهذه الاستراتيجية أثّرت على نحو كبير في قدرة صواريخ منظومة “القبة الحديدية” الدفاعية على اعتراض هذه الصواريخ، واستنزفتها بصورة مستمرة، الأمر الذي سمح بمرور عدد من الصواريخ، ووصوله إلى أهدافه، وخصوصاً أن آلية تشغيل منظومات “القبّة الحديدية”، تعتمد بصورة رئيسية على انتخاب الصواريخ الأكثر تهديداً للعمق الإسرائيلي، ثم تصويب صاروخ أو اثنين عليها، وهي آلية تسمح بالتالي بعبور أعداد كبيرة من الصواريخ، وتستخدم في الوقت نفسه أعداداً مضاعَفة من الصواريخ الاعتراضية، والتي تتراوح تكلفة الصاروخ الواحد منها بين 40 و100 ألف دولار، وهي تكلفة باهظة في حالة الاشتباك على نحو مستمر لعدة أيام، كما حدث خلال الأيام الماضية.
تُضاف إلى ذلك، نجاعةُ تكتيكات الفصائل في ما يتعلق بمنصات الإطلاق، بحيث استخدمت مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق، سواء كانت ذاتية الحركة أو تحت أرضية أو سطحية قابلة للإخفاء تحت سطح الأرض، كما أن هذه المنصات، التي كانت سابقاً فردية أو ثنائية أو رباعية، أصبحت متعددة الفوّهات، الأمر الذي يسمح بإطلاق عدد كبير من الصواريخ في توقيت واحد.
وهذا يتضح، على نحو كبير، من خلال مطالعة بعض نتائج الضربات الصاروخية على أسدود وعسقلان، اللتين تعرَّضتا للقسم الأكبر من الصواريخ خلال الأيام الخمسة الأخيرة. ففي عسقلان أصاب صاروخ فلسطينيٌّ بصورة مباشِرة مستودعَ خزانات النفط “كاتسا”، الواقع جنوبيَّ المدينة، الأمر الذي تسبَّب بضرر جسيم في أحد خزانات الحقل. وفي ميناء أسدود، أُصيب خزان وقود داخله بصاروخ فلسطينيّ، الأمر الذي أدّى إلى نشوب حريق كبير، وتسبَّب صاروخ آخر بقطع التيار الكهربائي في عدة مناطق في عسقلان.
كما تضرَّرت عشرات البنايات والشقق السكنية والسيارات في بئر السبع ومدن مستوطنات غلاف غزة، مثل “سديروت” و”أوفاكيم” و”كريات غات” وكرم سالم و”زيكيم” و”ياد موردخاي”، إلى جانب “تل أبيب”، التي تعرَّضت لأكبر عدد من الصواريخ منذ عام 2012. ونالت عدة مناطق فيها، مثل “يهود” و”بتاح تكفا” و”حولوم” ضربات مباشرة، طالت حتى مطار بن غوريون نفسه.
إن نجاح الفصائل الفلسطينية في توسيع القوس العملياتي لصواريخها، من 160 كيلومتراً إلى نحو 250 كيلومتراً، وتمكّنُها من استهداف كامل الشريط الساحلي، من شمال قطاع غزة وصولاً إلى المناطق المتاخمة لمدينة حيفا، كانا عاملاً أساسياً من عوامل تشتيت المجهود الإسرائيلي، مدنياً وعسكرياً، خلال الأيام الماضية.
هنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن النشاط الصاروخي الفلسطيني لم يكن فقط على هذا النحو، بل اتَّسَم أيضاً بالمرونة، بحيث تمَّ استهداف مرابض المدفعية الخاصة بالجيش الإسرائيلي عند تخوم غزة، بقذائف الهاون الثقيلة.
كما تمّ، في عدة مرات، تنفيذ ضربات صاروخية في اتجاه “تل أبيب”، بصورة فورية، عقب تنفيذ المقاتلات الإسرائيلية غارات على أحياء سكنية في غزة، وهو أسلوب تريد من خلاله الفصائل فرض معادلة ردع، ستسمح في حال نجاحها في جعل قيادة سلاح الجو الإسرائيلي تفكّر عدة مرات في عواقب غاراتها على القطاع، وخصوصاً أن الضربات الصاروخية الفلسطينية حاولت استهداف عدد من المطارات الإسرائيلية العسكرية، مثل قاعدة “حتسريم” الجوية، بالإضافة إلى مواقع الرادار الخاصة بمنظومات “القبة الحديدية” التي تقع شرق خان يونس.
إدامة عمليات إطلاق الصواريخ خلال أحد عشر يوماً، على نحو مكثّف وثابت، وعلى هيئة زخّات كبيرة العدد، كانت من أهم ملامح النجاح الذي تم إحرازه من جانب الفصائل في هذه المواجهة، بحيث تمكّنت إجمالاً من إطلاق ما يقارب 4400 صاروخ وقذيفة مدفعية، على الرغم من النشاط المستمر لمقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي، والتي استخدمت مجموعة من الذخائر الدقيقة والخارقة للتحصينات، في محاولة لضرب منصات الصواريخ التي أعدّتها فصائل المقاومة تحت الأرض. ومن هذه الذخائر القنابل الأميركية “جي بي يو 39″ و”بي أل يو-109”. يُضاف إلى ذلك النشاط الجوي المستمر لطائرات السربين “161” و”166″ للطائرات من دون طيّار، واللذين تعمل ضمنهما الطائراتُ من دون طيار من نوعي “هيرميس 450″ و”هيرميس 900”.
المعركة في فلسطين والعين على حزب الله
لم يغب الجانب البحري عن نشاط فصائل المقاومة الفلسطينية خلال الأيام الماضية، بحيث التقطت هذه الفصائل المخاوف الإسرائيلية السابقة من إمكان تعرُّض منصات التنقيب عن الغاز لهجمات. واللافت هنا أن الأوساط العسكرية الإسرائيلية كانت تنتظر هذه الهجمات من جانب حزب الله بصورة أساسية، وليس من فصائل غزة. هذا كان واضحاً خلال تدريبات الجبهة الشمالية التي تم إجراؤها أواخر العام الماضي، بحيث تمت خلال هذه التدريبات دراسة سيناريو دخول مفترض لعناصر تابعة لحزب الله شماليَّ فلسطين المحتلة من أجل تنفيذ عمليات خاصّة، وبصورة محددة في التجمّعات الاستيطانية الملاصقة للحدود، ونصب كمائن في طرق تنقل الوحدات العسكرية الإسرائيلية. التهديدات التي تمَّ نسج سيناريوهات هذه المناورات بشأنها، تضمَّنت أيضاً الجانب البحري، إذ باتت البحرية الإسرائيلية تضع في اعتبارها بصورة جدية تهديدات حزب الله بقصف منصات التنقيب الموجودة في المنطقة الاقتصادية لفلسطين المحتلة.
لهذا السبب، بدأت البحرية الإسرائيلية، منذ أوائل العام الجاري، تثبيتَ منظومات متقدمة من “القبة الحديدية” على متن فرقاطات “ساعر 6” الجديدة، والتي ستتسلّح أيضاً بصواريخ “باراك 8” المضادة للطائرات، والتي تمتلك قدرات محسَّنة للتعامل مع الصواريخ المضادة للقطع البحرية والطائرات من دون طيار.
ولم يكن غريباً أن تظهر إحدى هذه الفرقاطات قبالة ساحل غزة، من أجل حماية منصّات التنقيب عن الغاز. لكن هذا الوجود البحري “الكثيف” لم يفلح، على ما يبدو، في حماية هذه المنصات، التي اندلع حريق كبير في إحداها، يُعتقد أنه نتيجة هجوم من فصائل غزة، علماً بأن وزارة الطاقة الإسرائيلية علَّقت العمل في حقل “تمار” الغازي في الأيام الأولى لبدء إطلاق صواريخ المقاومة من غزة.
يُضاف إلى هذا الجانب، إدخال فصائل غزة “العملياتِ التخريبيةَ” تحت الماء ضمنَ معادلة المواجهة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وذلك عبر عمليات خاصة نفَّذتها وحدات الضفادع البشرية التابعة لها ضد إحدى منصات الغاز، وضد إحدى قطع البحرية الإسرائيلية، وهو تطور نوعي بالنظر إلى التصريحات الإسرائيلية التي تشير إلى أن هذه الهجمات تمَّت عبر غواصات تستطيع حمل شحنات متفجرة، زنتها بين 30 إلى 50 كيلوغراماً، وهو ما قد يكون إشارة إلى نوع من أنواع مركبات نقل للغواصين تحت الماء، وهي مركبات يقودها الغواصون، وتكون مزوَّدة بمحرّكات، ويمكن تحمليها بشحنات متفجرة إذا دعت الحاجة.
ظهور الطائرات الانتحارية الفلسطينية
من أهم ملامح المواجهة الأخيرة في غزة، الظهورُ الأول للطائرات الانتحارية الفلسطينية من دون طيار، بحيث أدخلت كتائب القسام للخدمة طائراتِ “شهاب” الانتحاريةَ، والتي تم استخدامها عدة مرات على مدى أيام المعركة، بحيث هاجمت مواقع الوحدات العسكرية الإسرائيلية الموجودة في مستوطنات “سدوت نحيف” و”شاعر هنيعف” و”أشكول”، إلى جانب تنفيذها هجوماً ناجحاً على مصنع للكيماويات في مستوطنة “نير عوز”.
يمثّل هذا التكتيك الجديد باعثَ قلق إضافياً للمخطط العسكري الإسرائيلي، والذي رأى سابقاً الخسائر الكبيرة التي حقَّقتها أمثالُ هذه “الدرونز” في اليمن وناغورنو قره باغ. يضاف إلى ذلك الإعلان للمرة الأولى عن طائرة “الزواري” الاستطلاعية، وبدون طيار، وهي إضافة إلى عدة أنواع تم الإعلان عنها سابقاً من الطائرات الاستطلاعية الفلسطينية من دون طيار. لكنْ، كان الأمر اللافت في هذه الطائرة أنها تمكَّنت من تصوير تحركات قوات الاحتلال عند أطراف غزة بكل أريحية، وبدون أيّ محاولة إسرائيلية للتصدي لها.
صواريخ الكورنيت
صواريخ “كورنيت” المضادة للدبابات كانت شرارة بَدء المواجهة العسكرية الحالية، حين استهدفت كتائب “القسام” بصاروخ من هذا النوع عربةً تابعة لمنظومة استخبارات حرس الحدود الإسرائيلي. ثم، في هجوم آخر، تمَّ تدمير عربة عسكرية إسرائيلية، قرب مستوطنة “نيف هعسراه” شماليَّ قطاع غزة، وأعقب ذلك هجومان آخران، استهدف الأول شاحنة تنقل دبابة من نوع “ميركافا”، والثاني استهدف باصاً لنقل الجنود. وأدّى نجاح العمليات الأربع إلى تطوُّر ملحوظ في القدرات المَهارية لطواقم التشغيل، نظراً إلى أن هذا النوع من الصواريخ يحتاج إلى عدة متطلبات ميدانية، تتراوح بين الرصد الدقيق، والتموضع في أماكن مستترة، ومموهة وقريبة في الوقت نفسه من الهدف. وأدّت الأضرار البشرية والمادية، والناتجة من هذه الهجمات، إلى تكليف المروحيات الإسرائيلية تَتَبُّعَ حركة طواقم هذه الصواريخ في المناطق الزراعية المتاخمة لمستوطنات غلاف غزة، وهي مهمة صعبة نظراً إلى تطوير فصائل المقاومة معدات خاصة تسمح بحمل فرد واحد مِنصةَ الإطلاق وصاروخَها على ظهره، بدلاً من استخدام طاقم مكوَّن من ثلاثة أشخاص لنقل هذه المنظومة ونصبها وتشغيلها، كما يحدث عادة.
الغَلَيان الداخلي في الأراضي المحتلة عامي 48 و67
من النقاط الجديرة بالذكر، في هذا الصدد، حقيقة أن المنظومتين الإسرائيليتين، العسكرية والأمنية، لم تكونا تقاتلان فقط في اتجاه قطاع غزة، بل وجدتا نفسيهما في خضم تَحَدٍّ أمني خطير، يتمثَّل بما يشبه “انتفاضة” أطلقها المواطنون الفلسطينيون الموجودون في مناطق ما يسمى بـ”الخط الأخضر”، واشتبكوا خلالها مع المستوطنين الإسرائيليين في معظم مدن الداخل الفلسطيني، وخصوصاً اللد وطبريا والرملة وعكا وحيفا ويافا وأم الفحم وكفر كنا، وصولاً إلى حي الشيخ جراح في القدس.
وشملت هذه الاشتباكات عمليات دهس استهدفت الشرطة الإسرائيلية، وعمليات إطلاق نار مباشِرة. وتنظر الأوساط الأمنية الإسرائيلية بتوجُّس كبير إلى هذا الوضع، الذي سيجعل، في حال تفاقمه، كلَّ القدرات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في حالة اشتباك فعلي في جميع أنحاء فلسطين المحتلة.
مثَّلت هذه المواجهة تحدياً خطيراً أمام صانع القرار الإسرائيلي، والمؤسستين العسكرية والأمنية، نظراً إلى أنها تنطوي على مخاطر لا تقل أهمية عن التبعات السلبية التي حاقت بالمنظومتين الإسرائيليتين، السياسية والعسكرية، جرّاء ملامح الفشل التي باتت تلوح في الأفق بعد نحو أسبوع من بدء تساقط الصواريخ الفلسطينية على قوس واسع من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما نتج من ذلك من خسائر مادية وبشرية ومعنوية كبيرة.
خلال السنوات الماضية، وفي مواجهات عسكرية سابقة بين الجانبين، لم يكن الداخل الفلسطيني متفاعلاً بهذه الدرجة من القوة مع ما يحدث في غزة، وذلك نتيجة لتعقيدات متعددة، أهمها القبضة الأمنية الإسرائيلية القوية، والتي قامت بواسطة عدد كبير من الإجراءات الميدانية – ومنها نشر المستوطنات بصورة تدريجية ومكثَّفة داخل المدن الفلسطينية – بتقطيع أوصال الضفة الغربية، على نحو يجعل أيَّ تحرك ميداني، شامل أو منسَّق من جانب الفلسطينيين في هذه المناطق، مهمةً شبه مستحيلة، يمكن تطويقها بصورة سريعة، إنْ بدأت هذه المدينة أو تلك في التمرد على سلطات الاحتلال، سواء عن طريق التظاهر أو غيره من الإجراءات الاحتجاجية.
لكن المنظومتين الإسرائيليتين، العسكرية والأمنية، في وقتنا الحالي، وجدتا نفسيهما أمام تحدٍّ ميداني أعاد إليها ذكريات الانتفاضتين الأولى والثانية، بحيث باتت هذه المنظومة فعلياً مهدَّدة من كلِّ الاتجاهات الداخلية في فلسطين، بين صواريخ غزة من الجنوب، وبين شبه “انتفاضة” أطلقها الفلسطينيون في المناطق الوسطى والشمالية، واشتبكوا خلالها مع المستوطنين الإسرائيليين في معظم مدن الداخل الفلسطيني، بما فيها معظم مدن الضفة الغربية، وفي داخل مدينة القدس، إلى جانب المدن المحتلة عام 1948، مثل اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا.
هذا الوضع جعل الأوساط الأمنية الإسرائيلية تعرب، على نحو صريح، عن مخاوفها العميقة من تحول هذه المواجهات إلى تراشق دائم أشبه بحرب داخلية، قد تُلقي بظلال قاتمة على مستقبل السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الواقعة داخل الخط الأخضر.
ووصل الأمر ببعض هذه الأوساط الإسرائيلية إلى اعتبار هذا الوضع “تهديداً وجودياً” لـ”إسرائيل”، لا يقل عن التهديدات التي تمثّلها القدرات الصاروخية الإقليمية، بحيث بات عدد معتبر من المحللين الإسرائيليين على قناعة بأن اندلاع انتفاضة جديدة، أو نشوب معارك داخلية بين الفلسطينيين وقوات الشرطة والمستوطنين الإسرائيليين، يشكل خطورة أكبر بمراحل من الاشتباك الصاروخي مع غزة، وخصوصاً أن الفلسطينيين في أراضي الـ 48 و67 والقدس برهنوا عن قدرتهم على الاشتباك والاحتجاج وفرض أمر واقع على الأرض، من دون اللجوء حتى إلى سلاح الفصائل الموجودة في الضفة الغربية، والتي إن دخلت في هذه المعادلة فسوف تضع المنظومتين الإسرائيليتين، العسكرية والأمنية، بين شقَّي رحى قد يؤديان إلى تغيير كامل لوجه كان سائداً منذ العام 48 في هذه البقعة من الأراضي العربية.
نقلاً عن الميادين للأخبار