النتائج المتعلّقة بالجبهة الداخلية للكيان مهمة، وستُساهم في تفكيكه من الداخل.
وليد القططي
كاتب ومحاضر في جامعة الإسراء – فلسطين
مرَّت ذكرى النكبة الثالثة والسبعين وفلسطين كلّها موحّدة تقاوم خلف القدس وسيفها؛ غزة بالصواريخ، والضفة بالحجارة، والساحل والمثلث والجليل والنقب بالتظاهرات، في لوحة عزّ وشرف وكرامة، مرسومة بالدم والعرق والدموع.
ذكرى النكبة المحفورة في عمق الذاكرة بحروف من ألم وحسرة ومهانة، تضرب في الوعي الجمعي للشعب والأمة بسؤال ليس له جواب مقنع: كيف استطاع كيان ناشئ بـ”جيشه” الصّغير أن ينتصر على جيوش عربية عديدة ودول عربية كبيرة، ويتمدّد ليحتلّ كلّ فلسطين والجولان وسيناء، ويضع قدمه الأولى على هضبة الجولان، وقدمه الأخرى في مياه قناة السويس، في غضون أقل من 20 عاماً على قيامه، ليكتسب جيشه لقب “الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر”… فما باله يُقهر في حرب “سيف القدس”، فيعجز عن وقف صواريخ المقاومة الفلسطينية المنهمرة كحجارة السّجّيل فوق رؤوس مستوطنيه في مستوطنته المركزية تل أبيب ومعظم مستوطناته المُقامة على أنقاض أرضنا المغتصبة، فتنقلب الصورة لتصبح المقاومة الفلسطينية التي لا تُقهر، وما بين المشهدين شيء ما تغيَّر!
لم يتغيَّر الكيان الصهيوني أو “الجيش” الإسرائيلي، ولكن ما تغيَّر هو الإنسان العربي الذي يُحارب الكيان و”جيشه”، فقد انتهت حروب الجيوش النظامية لأنظمة حاكمة غير جادة في مواجهة الكيان الصهيوني، وكان آخرها حرب أكتوبر في العام 1973، التي خرج بعدها الجيش المصري من الصراع مقابل استعادة سيناء منزوعة السيادة لمصر، ثم كانت حرب لبنان الثانية في العام 1982 مرحلة فاصلة بين حروب الجيوش والمقاومة، لتهزم فيها القوات المنظمة شبه النظامية، وتنتصر فيها قوات “حزب الله” المقاومة بعد 18 عاماً من المقاومة العنيدة، تُوجت بانسحاب “الجيش” الإسرائيلي مدحوراً تحت ضربات المقاومة في العام 2000، لتبدأ في العام نفسه الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد فشل المرحلة الانتقالية من اتفاقية “أوسلو” في تحقيق وعودها، والتي انتهت بأول إنجاز للمقاومة على الأرض الفلسطينية، عندما فكّكت المشروع الاستيطاني في غزة، وأجبرت “جيش” الاحتلال على الانسحاب إلى حدود القطاع.
بعد ذلك بعام، حقَّقت المقاومة اللبنانية إنجازاً جديداً في “حرب لبنان الثانية” في العام 2006، عندما أجبرت “الجيش” الإسرائيلي الغازي على الهروب مذعوراً تحت ضرباتها، ومن ثم وقف الحرب من دون أن تحقق هدفها، لتبدأ حروب غزة العدوانية الثلاث وعشرات المعارك وجولات التّصعيد، من دون أن يستطيع “الجيش” الإسرائيلي تحقيق النصر في ميدان المعركة، أو إنجاز صورة النصر في ميدان الإعلام، وهو شيء قريب من الهزيمة.
حقيقة العجز عن تحقيق النصر أو صورة النصر عبّر عنها وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق أفيغدور ليبرمان، بقوله: “إنّ الحكومات الإسرائيلية توقّفت عن الانتصار منذ حرب لبنان الأولى”، ولكنَّ ليبرمان لم يُدرك سبب توقف الحكومات الإسرائيلية عن الانتصار.
وقد حاول رئيس أركان الحرب الإسرائيلي أفيف كوخافي معرفة السبب عن طريق عقد ورشة عمل لكبار ضباط “جيشه” سماها “ورشة النصر”، لتحلّ لغز مأزق النصر، وتجيب عن سؤال: كيف يُمكن أن تحظى “إسرائيل” بنصر نظيف حاسم غير قابل للشك في حروبها المقبلة؟!
لم تستطع ورشة العمل الإجابة عن هذا السّؤال، لإدراك الصهاينة استحالة تحقيق النصر بالمفهوم التقليدي القديم، كاحتلال الأرض، أو تحقيق الأهداف السياسية للحرب، أو إخضاع المقاومة لإرادة الكيان، فذهبت الورشة إلى تغيير مفهوم النصر ليكون أكثر تواضعاً، ويتركز حول زيادة المدة الزمنية بين جولات المواجهة أو تقليل أمد كل جولة ومواجهة ضررها و”ردع العدو عن مهاجمة إسرائيل”.
وفي تعبير أكثر وضوحاً عن مأزق النصر الإسرائيلي، كتب رئيس “هيئة التحرير” في صحيفة “هآرتس” مقالاً تحليلياً عقب إحدى جولات التصعيد قبل 3 أعوام: “عندما تخوض إسرائيل مواجهة انطلاقاً من هدف مُعلن، فإنّ أعداءنا سينتصرون ما داموا لا يستسلمون”.
الشّيء الأكثر خطورة على الكيان الصهيوني من مأزق النصر هو دور الصواريخ في تقويض أساس المشروع الصهيوني، فهذا الكيان قام على 3 ركائز مترابطة، هي الأمن والهجرة والاستيطان، فالأمن أساس جلب اليهود الصهاينة، وهجرتهم إلى “أرض الميعاد”، والاستيطان فيها، ليحقق كل يهودي صهيوني حلمه “الخاص” في “أرض السمن والعسل”، ويحقق اليهود مجتمعين حلمهم الجمعي في إقامة “وطن قومي يهودي”، والصواريخ تسلب المستوطنين الأمن الشّخصي والجماعيّ.
وبدلاً من أن تكون “إسرائيل” أكثر مكان آمن لليهود في العالم، تصبح أكثر مكان خطراً على حياة اليهود في العالم، فلا يُهاجر يهود جدد إليها، بل تتحول إلى مكان طارد لهم، فتتزايد الهجرة العكسية، فيتأثر الاستيطان سلباً، وهو جوهر المشروع الصهيوني، وفي ذلك يبدو الخطر الأمني خطراً وجودياً على “دولة إسرائيل”، وهو ما عبّر عنه مؤسس “الدولة” العبرية ديفيد بن غوريون بقوله: “إنّ جوهر مشكلتنا الأمنية هو وجودنا بالذات. هذا هو المعنى الفظيع لمشكلتنا الأمنية”.
المأزق الأمني والوجودي الذي سبّبته صواريخ المقاومة للكيان الصهيوني، في تصديها لحروب الكيان العدوانية ومعاركه السابقة، تعمّق بشكل كبير وسريع في الجولة الحربية الحالية “سيف القدس”، بسبب تطور صواريخ المقاومة كمّاً ونوعاً ومسافة، ومراكمتها عناصر القوة المبنية على كل جولات الصراع السابقة، وإصرارها على إرادة النصر، رغم ضخامة الخسائر البشرية والمادية، وإيمانها بأهمية نتائج المعركة على مسار الصراع مع الكيان الصهيوني، وما لها من تأثير هائل في الكيان في كلّ المجالات، أهمها تغير صورة “إسرائيل” القوية و”جيشها” القادر أمام العرب والعالم، لتصبح “إسرائيل” الضعيفة و”جيشها” العاجز، وفقدان ثقة المستوطنين اليهود بـ”دولتهم”، لتصبح مكاناً غير آمن للعيش، وفقدان ثقتهم بـ”جيشهم”، ليصبح مؤسّسة غير قادرة على حمايتهم، وفقدان ثقتهم بقيادتهم السياسية، لتصبح قيادة لا تستطيع قيادتهم إلى برّ الأمان.
هذه النتائج المتعلّقة بالجبهة الداخلية للكيان مهمة، وستُساهم في تفكيكه من الداخل، ككيان أوهن من بيت العنكبوت، وستجعل الصهاينة {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ}، ولكن الأهم منها هو تتمة الآية القرآنية الكريمة: {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}، وهي النتيجة التي سيخرج بها أعداء “إسرائيل” في محور المقاومة وكل أحرار الأمة والعالم، عندما يرون عجزها أمام جبهة غزة منفردة، فكيف إذا ما انهمرت الصواريخ على الكيان من كل الجبهات مرة واحدة؟
هذه النتيجة ستُعجّل الإعداد لحرب وعد الآخرة الفاصلة؛ فبعد أن صدق الله العظيم وعده بمجيء اليهود جماعات مُهاجرة من كل أنحاء العالم إلى فلسطين: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}، وبعد أن بعث الله تعالى جيل النصر، ممن يمتلكون شرطَي الإيمان والقوة، بقوله تعالى: {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}، لم يبقَ إلا تحقيق وعدة الآخرة؛ حيث المعركة الكُبرى الفاصلة: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}، فهل ستكون معركة “سيف القدس” الحرب ما قبل الأخيرة؟!
نقلاً عن مؤسسة الميادين